جَلالَة الخالق
في قلوب العارفين حطمت غرور الدنيا، والخشية التي تمكَّنت من قلوبهم أحالت زينة
الدنيا في نظرهم خرابا، فهم يفرّون من الدنيا كما يفرّ الكافرون من الآخرة.
ونحن في هذا
الزمان لا نرى في الناس -أعني قدواتهم- تلك المشاعر: مشاعر الخشية من الله كما
نقرأها في صحف الأولين، لا أعني بهم أولئك الذين عاشوا قبل الآف السنين؛ بل أعني
بهم من عاشوا قبل بضع مئات من السنين. ما الذي ينقصنا عنهم ويزيدون به علينا لعلّنا
لم نعرف ربنا كما عرفوه، أو عرفوا قدر الدنيا ولم نعرفه! أو لعلهم عاشوا في دنيا
غير دنيانا و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [المائدة: 54].
أيها المغرور:
تنتظرنا أيام تشيب من هولها الولدان، ومواقف تنخلع لها القلوب، وحساب يُصَّير
الأفئدة هواء. إذا كانت النفوس تفزع من صوت انفجار، أو ترتعب من ظلام النهار بسبب
كسوف الشمس؛ فكيف بك وأنت ترى شمسا تكور، ونجوما تنكدر، وجبالا تسيّر، وبحارا تسجّر،
وصحفا تنشر، وجحيما تسعّر..
كيف بك أيها
المغرور: وأنت تنظر الى جهنم لا يُعَلم مداها -وقد ضرب على ظهرها الصراط- فيها
الحيات والعقارب، وهي ترى أهلها فتزفر وتتغيظ عليهم وهم فيها يصطرخون، وبخازن جهنم
يتوسلون، ويدعون على أنفسهم بالويل والثبور..
لماذا لا تخشى
الله أيها المختال: والبشر يجمعهم صعيد واحد: ملائكة أشداء يحيطون بهم، والشمس
المحرقة تدنو من رؤوسهم -قدر ميل-، والأنبياء مع أممهم جثاة على الركب من هول
المطلع ينتظرون فصل القضاء، والسبيل: إما الى جنات الكرامة والنعيم، وإما الى نار
الصديد والحميم.
خشية الله جلّ
جلاله: بها يجتمع خيرُ الدنيا والآخرة، وتنعم القلوب، وتنشط الجوارح، وتنصلح
النفوس، وتندحر وساوس الشيطان، وتزول لذّة الدنيا من الأفئدة، و بها يزول كرب
الدنيا، ويعظم الشوق الى لقاء الله..
قال الحجاج لسعيد بن جبير بلغني أنك لم تضحك قط
فقال: كيف أضحك وجهنم قد سعرت والأغلال قد نصبت والزبانية قد أعدت.
وقال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إِنَّ
الْمُؤْمِنَ لَا يَسْكُنُ رَوْعُهُ حَتَّى يَتْرُكَ جِسْرَ جهنم وراءه"[1].
وقد راق لي كلام الغزالي رحمه الله وهو يتحدث عن خشية
الله وأنا أنقل بعضه لأهميته قال: (فهذه مخاوف الأنبياء والأولياء والعلماء
والصالحين ونحن أجدر بالخوف منهم لكن ليس الخوف بكثرة الذنوب بل بصفاء القلوب
وكمال المعرفة وإلا فليس أمننا لقلة ذنوبنا وكثرة طاعاتنا بل قادتنا شهوتنا وغلبت
علينا شقوتنا وصدتنا عَنْ مُلَاحَظَةِ أَحْوَالِنَا غَفْلَتُنَا وَقَسْوَتُنَا
فَلَا قُرْبُ الرَّحِيلِ يُنَبِّهُنَا وَلَا كَثْرَةُ الذُّنُوبِ تُحَرِّكُنَا
وَلَا مشاهدة أحوال الخائفين تخوفنا ولا خطر الخاتمة يزعجنا فنسأل الله تعالى أن
يتدارك بفضله وجوده أحوالنا فيصلحنا إن كان تحريك اللسان بمجرد السؤال دون
الاستعداد ينفعنا
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّا إِذَا أَرَدْنَا
الْمَالَ فِي الدُّنْيَا زَرَعْنَا وَغَرَسْنَا وَاتَّجَرْنَا وَرَكِبْنَا
الْبِحَارَ وَالْبَرَارِيَ وخاطرنا.
وإن أردنا طلب رتبة العلم فقهنا وتعبنا في حفظه
وتكراره وسهرنا ونجتهد في طلب أرزاقنا ولا نثق بضمان الله لنا ولا نجلس في بيوتنا
فنقول اللهم ارزقنا ثم إذا طمعت أَعْيُنُنَا نَحْوَ الْمُلْكِ الدَّائِمِ
الْمُقِيمِ قَنَعْنَا بِأَنْ نَقُولَ بِأَلْسِنَتِنَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا وَالَّذِي إليه رجاؤنا وبه اعتزازنا ينادينا ويقول {وأن
ليس للإنسان إلا ما سعى} {ولا
يغرنكم بالله الغرور} يا أيها الإنسان ما عزك بربك الكريم
ثُمَّ كَلُّ ذَلِكَ لَا يُنَبِّهُنَا وَلَا يُخْرِجُنَا عَنْ أَوْدِيَةِ
غُرُورِنَا وَأَمَانِينَا فَمَا هَذِهِ إِلَّا مِحْنَةٌ هَائِلَةٌ إِنْ لَمْ
يَتَفَضَّلِ اللَّهُ عَلَيْنَا بتوبة نصوح يتداركنا بها ويجيرنا فنسأل الله تعالى
أن يتوب علينا بل نسأله أن يشوق إلى التوبة سرائر قلوبنا وأن لا يجعل حركة اللسان
بسؤال التوبة غاية حظنا فنكون ممن يقول ولا يعمل ويسمع ولا يقبل.
إذا سمعنا الوعظ بكينا وإذا جاء وقت العمل بما
سمعناه عصينا علامة للخذلان أعظم من هذا فنسأل الله تعالى أن يمن علينا بالتوفيق
والرشد بمنه وفضله.)[2].
والخاتمة: عن سعيد، قال: سمعت ذا النون،
يقول: " ثلاثةٌ علاماتُ الخوف: الورع عن الشبهات بملاحظة الوعيد، وحفظ اللسان
مراقبة للتعظيم، ودواء الكمد إشفاقا من غضب الحليم"[3]. و(الظمآن
يجزيه من الماء أيسره).
عمر العبد الله
[1] إحياء علوم الدين (4/ 188).
[2] إحياء علوم الدين (4/ 188) وما بعدها.
[3] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 361).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق