الاثنين، 6 يوليو 2020

الطاغية فرعون


 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والقدوة المسداة نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

إذا كان في عصر موسى فرعون واحد ففي زماننا فراعنة متعددون. لكل زمن قصة ولكل دهر فرعون. وقصة فرعون قصة عجيبة قد أكثر الله من ذكرها في كتابه وهذا أحد صفات الكتاب العظيمة {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23] مثاني تتكرر فيه القصص ليعتبر أولوا الألباب وتقوم الحجة على من طمس الله بصيرته وأعمى قلبه.

 وقد ذكر الله لنا جميع الأحداث المهمة التي تتعلق بموسى (‘)، والطاغية فرعون. فأحببت أن أخص قصة فرعون بشيء من التفصيل وأقف على كل المواقف التي برز فيها فرعون لكي نأخذ منها العبر ونستقي منها الدروس وقد اقتصرت على القرآن في بيانها ففيه الكفاية والهداية، ومن الله التوفيق.

 

عمر العبد الله

15 ذو القعدة 1441ه

 

 

المحتويات

المقدمة. 3

كثرة تكرار قصة فرعون في القرآن. 5

علوّ فرعون في الأرض... 6

فرعون يدعي الالوهية! 8

استبداد فرعون برأيه 9

فرعون يستخف بقومه 9

فرعون الظالم. 11

كيد فرعون. 12

مناظرة بين موسى (‘) وفرعون. 14

امرأة فرعون (آسية بنت مزاحم) 16

فرعون يرد دعوة موسى ويستهزئ به وبرسالته 17

مؤامرة في قصر فرعون على قتل موسى! 19

فرعون والسحرة 20

ما وقع من البلاء على فرعون وقومه 23

دعاء موسى على فرعون. 25

اليوم الأخير من حياة الطاغية فرعون. 25

 

 

 

كثرة تكرار قصة فرعون في القرآن

لقد وصف الله كتابه وصفا عجيبا فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]، ومن تلك الصفات العجيبة النافعة أنه جعل كتابه مثاني أي يكرر المعاني والقصص العظيمة بأساليب أخاذة بليغة تبهر العقول وتعجز البشر حتى ترسخ في نفوس المؤمنين ويكتمل تدبرها وتقوم بها الحجة على المعاندين المكذبين.

ومن تلك القصص التي أكثر الله منها: قصة الطاغية فرعون: الذي أهلك البلاد وظلم العباد وكذب الرسل ونازع الله في ألوهيته! وقصته لم يقتصر ذكرها في القرآن؛ بل ذكرت في التوراة والانجيل وكان اليهود والنصارى أعلم بها من مشركي العرب. وأما العرب فيعرفون قصة ثمود لأنهم أهلكوا في ديارهم وآثارهم ما زالت شاهدة عليهم.

 

قال تعالى: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 1 - 3]، وهذا النبأ ليس كأي نبأ بل إنه نبأ عظيم لا ينتفع به الا المؤمنين. وقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } [البروج: 17، 18]، أي فرعون وقومه وما فعلوه في أيامهم من استضعاف أمة وغير ذلك من أعمالهم الشنيعة.. وقال: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر: 10 - 12]، إذن قصة فرعون هي القصة التي أخذت مساحة واسعة في كتاب الله لأهميتها:

 

وتأتي أهمية هذه القصة أن فرعون يتكرر في كل زمان وأعوان الفراعنة لا يخلو منهم دهر ويلزم من ذلك كثرة الأمم المستضعفة والمستعبدة في كل حقبة؛ لذا كان من الأهمية بمكان تكرارها في كل كتاب وعلى لسان كل رسول وفي كل زمان.

 

وقد ذكر القرآن قصته في كثير من السور بسطا واختصارا وبين حاله مع قومه ومستشاريه وزوجه ومع موسى وهارون (•) وبين حالهم مع البلاء الذي نزل بهم والعقوبة التي حلت عليهم وسنذكر ذلك بالتفصيل:

 

علوّ فرعون في الأرض

قال تعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83]، وقال: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [القصص: 4]، وقال: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت: 39].

فرعون الحقير الذليل الذي لا يساوي شيئا في ملك الله علا في الأرض ومن علوه ادعى الألوهية فكان من المسرفين لأنه تجاوز الحد. وعلوه في الأرض لا يخفى على أحد فسيرته القذرة على كل لسان وتجبره معروفا لدى كل أحد وأيامه قد كتبت في الكتب السماوية فلا يغفل عما فعله بظلمه وذكره يدور على الألسنة في المعمورة وعلى المنابر بكل صورها؛ بل إن جثته العفنة شاهدة عليه يشهدها الخلق على اختلاف أديانهم ولغاتهم وألوانهم ودولهم في كل عصر إنها قدرة الله التي حطّمت الجبابرة وكتبت عليهم الذلّ والصغار بعد هلاكهم.

 

والطاغية فرعون من شدة علوه في الأرض وقسوة قلبه على الخلق قد أصم آذان الخلق عن نصرة موسى والايمان به خوفا من بطشه وهربا من ظلمه. حتى أنه قسم الناس في زمنه طوائف طائفة يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم ويستعبدهم ويقهرهم ويمنعهم حق المواطنة والعيش الرغيد فهم في مكابدة وقلق وقهر وهؤلاء هم بنو إسرائيل، وطائفة الاقباط الذي ينتمي اليهم فرعون يسرحون ويمرحون في البلاد يظلمون العباد ويفسدون في البلاد ويكفرون برب العباد وهكذا بعد أن شيع الناس طوائف وأوحى الى شياطينه أن يقذفوا العداوة والبغضاء بين الطوائف ليزيد علوه ويثبت سلطانه ويعظم بطشه وقهره فكان طاغية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

 

وكثير من الملوك في جميع جهات الأرض اتخذوا من فرعون أسوة ومن بطشه وظلمه وكيفية تفريق الناس واستعبادهم قدوة فندر العدل واختفى القسط بين العباد وانتشر الظلم حتى دخل كل بيت ولكن سنة الله ثابتة في الظالمين فمتى وجد الظلم وجد الهلاك قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].

 

فرعون يدعي الالوهية!

قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38]. وقال: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [النازعات: 17 - 24].

 

ادعى فرعون الالوهية في مقامين مقام يخاطب قومه بنفي الالهة سواه ومرة يخاطب موسى (‘) يدعي فيها ربوبيته وهذا كلام يدل على سفاهة عقله وضعف منطقه فهل الاله يأكل ويشرب وينام ويعجز ويحتاج الى غيره ثم يفنى! سبحان من سلب عقول الجبابرة حتى أصبحوا يتكلمون بكلام المجانين. وفرعون يعلم يقينا أنه ليس ربا بل مربوبا ولكنه تكبر واستخف قومه فأطاعوه.

 

 

 

 

استبداد فرعون برأيه

هذه عادة المتجبرين من الملوك يحملون الناس على رأيهم وان كان رأيا ساقطا يضر ولا ينفع وأستاذهم في ذلك فرعون الجاحد المتكبر فبعد أن ناظرهم مؤمن آل فرعون بأن يتركوا موسى ولا يقتلوه {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] ونصحهم بترك كفر النعمة نعمة الملك ورغبهم ورهبهم {يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر: 29].. خاف فرعون أن تميل قلوب الاقباط الى كلامه فتدخل و{قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] أي ما ترون الا ما أراه لنفسي وأنا إنما أريد لكم سبيل الحق وطريق الرشاد الذي فيه منفعتكم ونجاتكم وكذب فرعون وما نصح قال الله تعالى: {فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد} [هود: 97] ، فكان عاقبة هذا الرأي السقيم وقبول الأقباط له الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.

 

فرعون يستخف بقومه

كل من ألقى على قومه شبهة ركيكة ضعيفة فقبلها قومه فهو يستخف بهم وهذا حال كثير من الملوك الذين تسلطوا بقهرهم على الناس تراهم لا يحسنون التدبير وليس لهم حجة ومع ذلك يصفق لهم أقوامهم لماذا لأنهم وقعوا في شراك استخفاف الملك وكذلك فرعون ملهمهم الأول لما جاءه موسى (‘) بالآيات الباهرات والمعجزات الصادقات ضحكوا منه وسخروا ثم بين حجة قبيحة من منطقه القذر صدقها قومه.. {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [الزخرف: 51 - 53].

 

هنا يريد أن يعارض حجة موسى بهذا الكلام الفارغ فإنه ذكر أشياء خارجة عن ذاته يفتخر بها منها جريان الأنهار تحت قصره وفخره بعظم جاهه وقوة سلطانه وتمكنه من رعيته.. ثم تحول الى القدح في موسى (‘) فذكر لهم أنه مهين فقير لا يملك اساور من ذهب ولم تأتي معه الملائكة ومع ذلك فهو غير فصيح اللسان([1]) فقبل الأقباط هذه الشبه الواهية والحجج القبيحة أي استقبلوا الاستخفاف بهم بالسمع والطاعة {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [الزخرف: 54]، وقال تعالى: {وأضل فرعون قومه وما هدى} [طه: 79].

 

 

 

فرعون الظالم

درجت كل أمة أن يسموا كل طاغية وظالم بفرعون منهم أبو جهل لما اشتد ظلمه للرسول (‘) وأتباعه من سب وقذف وضرب ومحاصرة ومنع الطعام والشراب عنهم ثم قتلهم وقتالهم سماه النبي (‘) " فَرعون هذه الأُمة!" وكل من يظلم يسميه الناس فرعون نسبة الى فرعون الذي آذى موسى وقومه.

 

كان فرعون يتفنن في تعذيب الشعوب المستضعفة بل قتل كل من خالفه بعد أن يسمه سوء العذاب وقد لا نعجب كثيرا من ذلك الفرعون فزمننا هذا فيه فراعنة أشد من فرعونهم الأول! اذا كان فرعون السابق يحن ويداري قومه الأقباط فإن فراعنة العصر أول ما يبدؤون بأبناء جلدتهم يسلخون جلودهم وينتزعون كرامتهم ويسرقون أموالهم حتى أننا بتنا نحلم أن تحقق لنا أبسط حقوقنا من مأكل ومشرب ومسكن ومركب وخدمة عامة ولا حول ولا قوة الا بالله.

 

وقد بين الله لنا ظلم فرعون في آيات كثيرة منها قوله تعالى:{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] فإن بعض الكهنة قال له إن نهايتك تكون على يد مولود من بني إسرائيل طار عقله واشتد غضبه وذبح جميع المواليد ولكن الله نجى موسى عندما كان في المهد ليكون هلاكه على يديه لا رادّ لقضائه سبحانه.

 

ومن شدة ظلم فرعون وتخويف الناس بجرائمه أنه لم يجرؤ شيوخ بني إسرائيل على الايمان بموسى بل آمن شبابهم كما قال:{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83].

 

وقال تعالى مبينا ظلم فرعون وقومه:{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} [الشعراء: 10، 11] وقال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [النازعات: 17] {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ } [الفجر: 10 - 12].

 

وكان فرعون لشدة ظلمه لا يعذب فقط؛ بل يهين بعذابه: المؤمنين{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان: 30، 31] .

 

كيد فرعون

صحيح أن فرعون كان ظالما جاحدا ولكنه كان ذكيا صاحب مكيدة وخديعة يحاول بظلمة كيده أن يغطي نور المعجزة ولكنه خاب وخسر.

قال تعالى:{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه: 60] (ومعنى جمع الكيد: تدبير أسلوب مناظرة موسى، وإعداد الحيل لإظهار غلبة السحرة عليه، وإقناع الحاضرين بأن موسى ليس على شيء.

وهذا أسلوب قديم في المناظرات: أن يسعى المناظر جهده للتشهير ببطلان حجة خصمه بكل وسائل التلبيس والتشنيع والتشهير، ومبادأته بما يفت في عضده ويشوش رأيه حتى يذهب منه تدبيره)([2]).

 

وأعظم مكيدة صنعها فرعون هي ما كان منه يوم الزينة ثم خذل بعدها وهلك قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه: 56 - 64].

 

أخذ فرعون الوقت الكافي ليجمع أعظم سحرته ليكيد بموسى (‘) فجعل له يوم اجتماع الناس في يوم عيدهم ليرى الناس –في ظنه- هزيمة موسى وأنى له ذلك فاجتمع الناس وجاء السحرة ووضعت لفرعون القبة وهو في كامل زهوه وتكبره والكل مترقب فما يفعل موسى أما سبعين من دهاة السحرة وهو بين مجتمع ساخر منه إنه موقف رهيب لا يستطيعه الا الرسل والانبياء فوعظهم موسى رغبهم ورهبهم حذرهم وأنذرهم بطش ربهم ثم ألقى السحرة عصيهم وحبالهم فخيل للناس أنها أفاعي في منظر رهيب مهيب حتى أن موسى أدهشه المنظر وأوجس في نفسه خيفة لولا أن ربط الله على قلبه فثبته والناظر في تلك اللحظة لسان حاله يقول يستحيل أن ينتصر عليهم موسى! نعم لو كان سحرا ما غلبهم ولكنها المعجزة {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ } [الأعراف: 117 - 119]

 

فأخزى الله فرعونَ وقومه، وهدى السحرة، ونصر موسى وهارون{ وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } [غافر: 37].

 

مناظرة بين موسى (‘) وفرعون

فرعون اللعين لا يناظر أحدا بل من نازعه قتله الا موسى وهارون فقد جعل الله لها سلطانا فلا يصلون اليهما وهذا وعد من الله مقطوع لموسى وهارون وهذا مما قوى قلوبهما مما جعلهما يواجهان فرعون ويناظرانه بكل قوة وعزة من غير خوف.

فلما جاء موسى الى فرعون طلب منه أن يترك بني إسرائيل وينهي استعبادهم ليذهبوا مع موسى الى الأرض المقدسة بعيدا عن الأقباط ليقيموا شريعة الله المتمثلة بالتوراة وتعاليم موسى (‘). فقال موسى لفرعون أنا مرسل من رب العالمين ويأمرك أن تطلق سراح الأمة المستضعفة –بني إسرائيل- فبدأ فرعون يسخر من موسى ويؤنبه على فعلته ويذكره بنعمته عليه حين أخذه وهو في المهد ولم يقتله عندما قتل أبناء بني إسرائيل ورباه في قصره وعلى فراشه حتى بلغ.. ثم ذكره بقتله للقبطي انتصارا للإسرائيلي وبين له أنه فعل كل هذا ولم يكن الا على دين أهل القصر –على احد التفاسير- أو أنه من الكافرين أي الجاحدين لنعمة فرعون عليه.

 

وهنا اعترف موسى (‘) أنه قتل القبطي لأنه كان من الجاهلين ولم يكن يومئذ نبيا ورسولا فخاف من بطش الأقباط فهرب الى مدين حيث لا حكم لهم هناك فوهبه الله النبوة والرسالة. ثم بين لفرعون أنه لا نعمة عليه اذ أنه استعبد وظلم بني إسرائيل ورفع الظلم والاستعباد عن موسى فإنه لا ينعم الرجل اذا رأى قومه مستعبدين مقهورين.

 

فلما حج فرعون بكلامه السابق انتقل الى جحود الاله أي وما رب العالمين وأنا ربكم -تعالى عما يقوله فرعون- فرد عليه موسى مبينا: أن الرب هو خالق السموات والأرض وما بينهما. فقال فرعون لقومه الا تستمعون يثبت لكم ربا غيري! فبين له موسى ثانيا (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) هنا اتهم فرعون موسى بالجنون لسفاهة وضعف حجته وهذا هو ديدن أهل الباطل يردون الحجة بالتسفيه والشتائم!

 

فردّ موسى بقوله: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)، هما انتقل فرعون من الكلام العادي الى التهديد لأن موسى بين عواره وفضح باطله وسفه عقله وألزمه الحجة وبين له المحجة فلم يك لفرعون سبيل الا سبيل القوة.

 

ولما عرف موسى أن فرعون لا يقنعه البرهان ولا تهديه الحجة انتقل الى المعجزات لعله يهتدي فقال له: ( أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) فقبل فرعون ظنا منه أنه لا يستطيع الى ذلك سبيلا لأنه يعرف موسى لم يكن عنده شيء من هذا القبيل (قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِين).

 

(فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) عليها نور ليس فيها برص وموسى كان أسمر اللون فكانت له آية. هنا كانت الصدمة لفرعون وقومه فلم يجد ردا عليها الا اتهامه بالسحر والمؤامرة.. ثم أراد فرعون أن يحرج موسى ويرد دعوته فجمع له أكابر السحرة ليكشف سحره بزعمه ولكن النتيجة كانت على عكس ما يظن.

 

امرأة فرعون (آسية بنت مزاحم)

قصتها من أعجب القصص لم تؤمن الا زمنا يسيرا فكانت أول امرأة كاملة وسيدة النساء وهذا الفضل كله يتجلى بقوة بصيرتها وثباتها على ايمانها فلم يغريها ملكها ولم يخوفها أعتى رجل في زمانها فإن الايمان اذا تمكن من القلب خرجت الدنيا منه وامرأة فرعون لما تبين لها صدق موسى -وهي التي ربته- وظهرت حجته لم تتأخر في ايمانها وتصديقه فلما علم فرعون أنها كفرت به وآمنت بمن خلق الأرض والسموات العلى عذبها عذابا اليما فلم يصدها ذلك عن ايمانها ولم يرجعها الى الكفر فعن أبي هريرة أنه وتدها بأربعة أوتاد، واستقبل بها الشمس، وألقى عليها صخرة عظيمة، فقالت: رب نجني من فرعون فرقى بروحها إلى الجنة، فألقيت الصخرة على/ جسد لا روح فيه)([3]) فجعلها الله مثلا حسنا مضروبا الى قيام الساعة{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11]. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ (‘) فِي الْأَرْضِ خُطُوطًا أَرْبَعَةً، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ »، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (‘): «أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ»([4]).

 

فرعون يرد دعوة موسى ويستهزئ به وبرسالته

لم يأتِ رسول الا وكُذِب وحورب من أهله وعشيرته ورأى ألوان العذاب والشتائم وردت دعوته خصوصا من أهل النفوذ والسلطان والجاه ولا يتبعهم الا بسطاء الناس ممن فتح الله بصيرته وهدى قلبه للإيمان.

 

وموسى (‘) ممن أوذي في الله وقد بعث في زمن فرعون أعتى رجل في زمانه وموسى (‘) تربى في كنف فرعون وأما ناظريه يعلم صدقه وأخلاقه وشهامته لا يفجر ولا يكذب ولا يداهن ولكن الله طمس بصيرة فرعون وأعمى قلبه فلا يبصر النور ولا يهتدي اليه ولما جاءه موسى برسالة هي أفضل الرسالات في عهده كذب بها وسخر منها كما قال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11]، وقال: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 103]، وقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} [ص: 12] فكان تكذيبهم تدميرهم ونذير شؤم على آل فرعون وأمّة الأقباط.

 

ولم يكتفوا بتكذيبه بل اتهموه بالجنون والسحر يوهمون الناس أنه تعلم السحر في غيبته ليفرقوا عنه أمة خشية أن تسلم لله رب العالمين وتذر فرعون وربوبيته المزيفة{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109] وقال: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101]، ومع اتهامهم له بالسحر فإنهم كذلك يسخرون به ويضحكون منه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف: 47]، ويرد فرعون دعوة بموسى بحجة أنه أفصح منه لسانا وموسى فيه عيب وهذا على ما كان لأن الله أفصح لسانه وأزال عيبه عند الرسالة {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] أي أن موسى (‘) بحسب قول فرعون ضعيف المنزلة غير فصيح اللسان فكيف يكون خيرا مني! لعن الله كلَّ فرعون!

 

مؤامرة في قصر فرعون على قتل موسى!

المؤامرات تحاك منذ القدم ويكثر إفساد الملوك في الأرض اذا كانت بطانتهم بطانة شرّ ومن هؤلاء فرعون فمع كونه أظلم الناس الا أن بطانته كانت شرا منه فمنهم يستمد قوته في ظلم الناس وهذا في كل عصر؛ لذلك قررت بطانة الشر أن تقنع فرعون بقتل موسى وألبوه عليه وعلى بني إسرائيل لعيد فيهم المجازر والظلم {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]، أعداء الله جعلوا إصلاح موسى إفسادا في الأرض فاستجاب لهم فرعون الا أنه يعلم أنه لا يقدر على قتل موسى؛ بل إنه كان إذا رأى موسى بال كما يبول الحمار كما ورد!

 

وهذه المؤامرات سنة كونية ما تزال قائمة من أهل الظلم ضد أهل الصلاح أتباع الأنبياء ففي كل عصر فرعون وفي كل عصر موسى.

 

 

 

 

فرعون والسحرة

 (يجعل الله معجزة كل نبي من جنس ما كان غالبا على أهل ذلك الزمان فلما كان السحر غالبا على أهل زمان موسى (’) كانت معجزته شبيهة بالسحر وإن كان مخالفا للسحر في الحقيقة)([5]).

 

لما كان ظن فرعون وحاشيته بموسى أنه ساحر تبين لهم أنه لا يمكن غلبته الا بمثل ما أتى به وقد اشتهر في زمن فرعون السحر وفيه الاف السحرة فطلب من جميع المدائن أعظم السحرة يأتوا اليه في يوم الزينة حيث اجتماع الناس في العادة فوصل اليه أعظم السحرة –قيل عشرات وقيل مئات- (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) رغب فرعون السحرة بأعلى المناصب وكثرة الأموال فقط من أجل غلبة موسى فوافق السحرة ظنا منهم أن ما جاء به موسى من جنس السحر وهم في السحر لا يغلبنهم غالب لشدة تمكنهم منه وهذا صحيح كما وصفه ربنا (وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ).

 

فجاء يوم الزينة واجتمع الفريقان وفرعون قد ضربت له قبة لينظر الى نهاية مكره المرّة (قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) وقد جاؤوا بعصيهم وحبالهم وهي لا تحصى كثرة كلها انقلبت أفاعي فيما يخيل للناظر ومن شدة هول المنظر (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) فإلى أي حد بلغ هذا السحر حتى دخل بعض الخوف الى قلب موسى (‘)! ثم نزلت على موسى السكينة وأن مهما يكن للناظر من هذه المناظر السحرية فهي تبقى لا حقيقة لها وعليه فلا ينبغي الخوف منها (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) ومباشرة وبلا أدنى تردد (أُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) قال المفسرون: إن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلاثمائة بعير فلما ابتلعها ثعبان موسى (’) وصارت عصا كما كانت قال بعض السحرة لبعض هذا خارج عن السحر بل هو أمر إلهي فاستدلوا به على أن موسى (’) نبي صادق من عند الله تعالى قال المتكلمون: وهذه الآية من أعظم الدلائل على فضيلة العلم وذلك لأن أولئك الأقوام كانوا عالمين بحقيقة السحر واقفين على منتهاه فلما كانوا كذلك ووجدوا معجزة موسى (’) خارجة عن حد السحر علموا أنه من المعجزات الإلهية لا من جنس التمويهات البشرية ولو أنهم ما كانوا كاملين في علم السحر لما قدروا على ذلك الاستدلال لأنهم كانوا يقولون: لعله أكمل منا في علم السحر فقدر على ما عجزنا عنه فثبت أنهم كانوا كاملين في علم السحر.

 

فلأجل كمالهم في ذلك العلم انتقلوا من الكفر إلى الإيمان فإذا كان حال علم السحر كذلك فما ظنك بكمال حال الإنسان في علم التوحيد)([6]).

 

فانتقلوا من الكفر الى الإيمان بلا أدنى تأخر (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) لما قالوا: آمنا برب العالمين قال لهم فرعون إياي تعنون فلما قالوا: رب موسى قال إياي تعنون لأني أنا الذي ربيت موسى فلما قالوا: وهارون زالت الشبهة، وعرف الكل أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السماء وقيل إنما خصهما بالذكر بعد دخولهما في جملة العالمين لأن التقدير آمنا برب العالمين وهو الذي دعا إلى الإيمان به موسى وهارون)([7]).

 

فلما آمن السحرة وهم بهذه القوة من السحر وبهذا العدد الكبير وأما جميع الناس طار عقل فرعون واشتد غضبه فألقى شبهه على الناس خشية أن يسلموا فقال: (فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (فالشبهة الأولى: قوله: إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة والمعنى: أن إيمان هؤلاء بموسى (’) ليس لقوة الدليل بل لأجل أنهم تواطئوا مع موسى أنه إذا كان كذا وكذا فنحن نؤمن بك ونقر بنبوتك فهذا الإيمان إنما حصل بهذا الطريق.

والشبهة الثانية: أن غرض موسى والسحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة وإبطال ملكهم ومعلوم عند جميع العقلاء أن مفارقة الوطن والنعمة المألوفة من أصعب الأمور فجمع فرعون اللعين بين الشبهتين اللتين لا يوجد أقوى منهما في هذا الباب)([8]).

ثم توعد السحرة بأشد العذاب وهو تقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ثم يصلبهم ولكن كل هذا التهديد والعذاب لم يؤثر في السحرة (قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) [الأعراف: 125 - 126] وهنا كانت نهاية المشهد بعد انسحاب الفريقين من ساحة الحدث العظيم آمن بعضهم وبقي الأكثر على كفرهم عنادا واستكبارا وكان هذا المشهد الأخير الذي بعده هلاك فرعون وجنوده.

 

ما وقع من البلاء على فرعون وقومه

كانت بنو إسرائيل تسكن أرض (جاسان) في أرض لا يسكنها الأقباط فأراضيهم وزروعهم ومواشيهم ومياههم معزولة عن قوم فرعون وكان بنو إسرائيل يعملون عبيدا تحت قهر فرعون وجنده في الأعمال الشاقة وهذا الطبع المهين والذل العظيم قد تمكن منهم حتى باتوا يتقبلونه رغما عنهم!

 

وقد عزم فرعون وقومه أن لا يؤمنوا بما جاء به موسى وفي ظنهم أن ما يأتي به من جنس السحر. ثم إن الله ابتلاهم بما لا يقبل الشك أن الساحر لا يمكن أن يأتي به فابتلاهم (بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ) فكثر القحط وانتشر الجوع وقلّ الثمر وهذا كله خاص بمزارع الأقباط، وأما بنو إسرائيل فأمورهم على أحسن حال: البلاء لم يشملهم. وهذا كله من أجل أن يذكر فرعون وقومه فيسلموا ويؤمنوا بموسى ولكنهم قوم يجحدون كل نعمة (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) فهم عند حسن الحال ينسبوه لأنفسهم وإن أصابهم السوء تشاءموا بموسى ومن آمن معه فلما كان هذا حالهم توالت عليهم آيات العذاب لعلهم يرجعون وبموسى يؤمنون.

 

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف: 133]، هدم الطوفان بيوتهم وأهلك زروعهم ولم يأت على قرية جاسان التي يسكنها بنو إسرائيل وهذه آية لا يمكن لأي ساحر الاتيان بها فلم يتعظوا وبقوا على كفرهم!

 

ثم أرسل الله عليهم الجراد أسرابا عظيمة أكلت زروعهم حتى أصابهم الغم والجوع فأصروا على كفرهم وعنادهم!

ثم خرج فيهم القمَّل فمصّ دمائهم ولم يؤمنوا!

ثم خرج فيهم الضفادع حتى ملأ بيوتهم وشوارعهم وطعامهم وشرابهم فلم يتذكروا!

ثم كانت أنهارهم دما لا يهنئون بشراب ولا بغيره فلم يرجعوا عن جحودهم!

ثم أصابهم الطاعون حتى هلك سبعون الفا منهم وكل هذه الآيات لم تصب بني إسرائيل بل كانت على قوم فرعون مقتصرة ولما أهلكهم الطاعون {قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ } [الأعراف: 134، 135] وهذا حال الكفار المعاندين لا يؤمنون بكل آية {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر: 41، 42].

 

دعاء موسى على فرعون

لما وصل موسى مع فرعون الى طريق مسدود بسبب كفر فرعون وجحوده بجميع الايات التي جاء بها موسى (‘) وبعد أن قامت عليهم الحجة وتبينت لهم المحجة دعا عليهم موسى { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] أي عاقبهم عل كفرهم بإهلاك أموالهم. قال قتادة: بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة لا ينتفعون بها (واشدد على قلوبهم) قال ابن عباس: أي امنعهم الإيمان. حتى يهلكوا بالغرق.

 

اليوم الأخير من حياة الطاغية فرعون

هذا اليوم هو آخر يوم من أيام الطغيان والكفر والاستكبار في الأرض هو يوم ترك فيه الطغاة ما جمعوه من الأموال الفانية والثمار اليانعة والقصور الفارهة هو يوم بقيت فيه أيام الشقاء ذكرى سيئة للظالمين وذكرى جميلة للصابرين المؤمنين وهو أول أيام العز والرخاء والتمكين للثلة المؤمنة موسى وقومه هو يوم انتهاء الاستعباد وأعمال الشقاء يوم انتهى فيه خوفهم وبدأت فيه سعادتهم يوم يعبدون الله بلا ظالم يخوفهم ولا جبار يعذبهم هذا اليوم هو اليوم الذي فرق الله به بين أهل السعادة وأهل الشقاء يوم فرح به المستضعفون المؤمنون وحزن فيه الجبارون المتكبرون هو يوم بدأت فيه هذه الرسالة المباركة في مرحلتها الثانية وهي مرحلة تربية جيل الأرض المقدسة جيل الفاتحين جيل الايمان والشجاعة والاباء..

 

لقد منّ الله على بني إسرائيل بأعظم منّة وأحسن نعمة إذ أهلك أكبر عدو لهم في تاريخهم أمام أعينهم حتى لا يبقى فيهم خوف وينزع نتهم الذل الذي عاشوه تحت حكم فرعون وقهره.

 

قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 61 - 67].

 

وقال: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 90 - 92]

(لما دخلت بنو إسرائيل البحر فلم يبق منهم أحد، أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل، حتى وقف على شفير البحر، وهو قائم على حاله، فهاب الحصان أن ينفذ. فعرض له جبريل على فرس أنثى وديق، فقربها منه فشمها الفحل، فلما شمها قدمها، فتقدم معها الحصان عليه فرعون. فلما رأى جند فرعون فرعون قد دخل، دخلوا معه وجبريل أمامه، وهم يتبعون فرعون، وميكائيل على فرس من خلف القوم يسوقهم، يقول:"الحقوا بصاحبكم". حتى إذا فصل جبريل من البحر ليس أمامه أحد، ووقف ميكائيل على ناحيته الأخرى، وليس خلفه أحد، طبق عليهم البحر، ونادى فرعون -حين رأى من سلطان الله (¸) وقدرته ما رأى وعرف ذله، وخذلته نفسه)([9]).

 

انها أعظم منة على بني إسرائيل حيث أورثهم الله الأرض المباركة :{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [الأعراف: 136، 137].

 

وقال:{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46].

 

الى كل من تشبه بفرعون وسار بسيرة عاد واقتدى بأبي جهل تلك أيامهم قد خلت وجعلها لمن بعدهم عبرة وهذه جثة أعظم طاغية ينظر اليها الناظرون ويعتبر بها المعتبرون قد حفظها لينظر اليها جميع من تسول له نفسه التمرد على الله وادعاء ماليس له من صفات الالوهية والربوبية. وليعتبر بها كل من يتمتع بذل قومه وتجويع شعبه بسرقة أموالهم واهلاك ممتلكاتهم ونهش أعراضهم هذه عبرة لكل من استعبد الخلق وكفر بالخالق.

 

لقد جعل الله لنا في الأرض شواهد كثيرة على إهلاك الأمم الغابرة والدول السابقة فهل من متعظ قبل فوات الأوان {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [يوسف: 111].

 

 



([1]) أي فيما سبق عندما كان في قصره قبل السفر الى مدين لأنه لما أرسله الله أصلح لسانه {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى } [طه: 25 - 36].

([2]) التحرير والتنوير (16/ 247).

([3]) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (30/ 575).

([4])صحيح ابن حبان - مخرجا (15/ 470).

([5]) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (14/ 333).

([6]) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (14/ 337).

([7]) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (14/ 338).

([8]) المصدر السابق.

([9]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (2/ 52).


الآجرّوميّة