الاثنين، 22 يونيو 2020

المعازف


               بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد ولد آدم النبي المصطفى الكريم وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين أما بعد:

تفنن أهل الفسق في زماننا هذا في المعازف فأصبح فناً زعموا! فأنشؤوا لها المدارس والجامعات، وصرفوا من أجل نهوضها الدولارات. حتى أننا نعجب من جهل بعض المسلمين بحرمتها! وهذا يحتاج الى جهود عظيمة مقابل تلك الجهود ليرجع أبناء المسلمين من رقية الشيطان الى كلام الرحيم الرحمن.

ووقع في نفسي التعليق على هذه المسألة متجردا ومنصفا في بيان الحق الذي يحاول تغطيته بعض المنتسبين الى العلم داعين الى سماع المعازف التي تنوعت وجلّت عن الحصر وأناقش في هذه السطور مسألة واحدة تدور على حديث المعازف الذي أخرجه البخاري (¬) في صحيحه معلقا، مبينا صحته ودافعا عنه ما قيل فيه من تضعيف وأناقش بعض الكلمات التي دارت حول ألفاظه من بعض من تكلم فيه راجيا من الله عفوه وتوفيقه إنه على ذلك قدير.

عمر العبد الله

صفر: 1440/2/4

 

بيان حديث أبي مالك الأشعري:

أخرج البخاري (¬) في صحيحه (7/ 106) برقم (5590) قال: قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الكِلاَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأَشْعَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي: سَمِعَ النَّبِيَّ (‘) يَقُولُ: " لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ - يَعْنِي الفَقِيرَ - لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ "

هذا الحديث علقه الإمام البخاري (¬) جازما به.

ولم يصرح البخاري بالتحديث عن هشام بن عمار في جميع النسخ من صحيحه. والسبب وراء عدم إيراد البخاري لهذا الحديث أكثر من مرة في صحيحه بسبب (قصور في سياقه وهو هنا تردد هشام في اسم الصحابي وسيأتي من كلامه ما يشير إلى ذلك حيث يقول إن المحفوظ أنه عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك وساقه في التاريخ من رواية مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم كذلك وقد أشار المهلب إلى شيء من ذلك وأما كونه سمعه من هشام بلا واسطة وبواسطة فلا أثر له لأنه لا يجزم إلا بما يصلح للقبول ولا سيما حيث يسوقه مساق الاحتجاج..)([1])

بين الزركشي أن البخاري حدث به قال وقد أسنده أبو ذر عن شيوخه فقال: قال البخاري حدثنا الحسين بن إدريس حدثنا هشام بن عمار قال فعلى هذا يكون الحديث صحيحا على شرط البخاري وبذلك يرد على بن حزم دعواه الانقطاع. وقد بين ابن حجر أن هذا وهم توهمه الزركشي وبين ان الذي قال حدثنا الحسين هو العباس بن الفضل شيخ أبي ذر لا البخاري([2])!

 وقد أعله بعض المحدثين بعلّة الانقطاع ما بين البخاري وصدقة بن خالد وذلك أن البخاري علقه فقال: قال هشام بن عمار وهذا تعليق للسند([3]).

وأجيب عن هذه العلة: بأنه لا يوجد معلق جزم به البخاري الا ووجد متصلا سواء في الصحيح أو خارجه. قال ابن حجر: (وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم يكون صحيحا إلى من علق عنه ولو لم يكن من شيوخه..)([4])

وقال ابن الصلاح (¬): التعليق الذي يذكره أبو عبد الله الحميدي، صاحب (الجمع بين الصحيحين) وغيره من المغاربة، في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها - وقد استعمله الدارقطني من قبل -: صورته صورة الانقطاع، وليس حكمه حكمه، ولا خارجا ما وجد ذلك فيه منه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف، وذلك لما عرف من شرطه وحكمه، على ما نبهنا عليه في الفائدة السادسة من النوع الأول.

ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رده ما أخرجه البخاري، من حديث أبي عامر، أو أبي مالك الأشعري عن رسول الله (‘): " ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف. . " الحديث. من جهة أن البخاري أورده قائلا فيه: قال هشام بن عمار وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف. وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح.

والبخاري (¬) قد يفعل ذلك، لكون ذلك الحديث معروفا من جهة الثقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه، وقد يفعل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع، والله أعلم.

والحديث جاء متصلا إسناده عن الثقات في غير موضع:

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3/ 282) قال:حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الْجَوْنِيُّ الْبَصْرِيُّ([5])، ثنا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ به.

وأخرجه أيضا في مسند الشاميين (1/ 334) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الدِّمَشْقِيُّ، ثنا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ به.

وأخرجه ابن حبان في صحيحه (15/ 154) قال: أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان([6])، قال: حدثنا هشام بن عمار.

وجاء موصولا في مستخرج الإسماعيلي قال حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار به([7]).

وأخرجه أبو نعيم في مستخرجه على البخاري من رواية عبدان بن محمد المروزي ومن رواية أبي بكر الباغندي كلاهما عن هشام ([8]).

قلت: وقد تبين بما لا شك فيه أن السند متصل وقد وهم ابن حزم (¬) فضعف الحديث من غير نظر الى بقية الطرق المتصلة وما قدمناه ينفيها نفيا مؤكدا. وقد ذكرنا أول الباب سبب تعليق البخاري (¬) له.

وقد حاول بعض المعاصرين التقليل من قوة حديث الباب بسبب عطية بن قيس -الذي استشهد له البخاري- فقال: (..ففي الأول (حديث البخاري) عطية بن قيس ، وهو وإن كان معروفا مقبول الرواية مشهورا بالصلاح ، لكن درجته في الضبط ليست كبيرة! ، ولذلك قال عنه أبو حاتم : «صالح الحديث» ، وهو أقوى ما قيل فيه من التوثيق الصريح .)

قلت: ولا أدري ما الغرض من ذكر مثل هذا الكلام في هذا الراوي هل للتشكيك في صحة الحديث بعد أن نُقضت دعوى ضعف الحديث بسبب الانقطاع أم ماذا؟ وكون البخاري يستشهد له في صحيحه وتوثيق أبي حاتم له بقوله: صالح الحديث الا يكفي في عدم طرق مثل هذا الاستدراك: (لكن درجته في الضبط ليست كبيرة!).

وبعضهم أعلّ الحديث بصدقة وهذا وهم فقد توهم أنه صدقة بن عبد الله والذي روى له البخاري صدقة بن خالد وقد وثقه الجميع([9]).

وقد أعله ابن حزم أيضا بكون الراوي عَبْد الرَّحْمَنِ بْن غَنْمٍ الأَشْعَرِيُّ شك في روايته فقال: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ! وهذه علّة غير قادحة ولا أثر لها في تضعيف الحديث لأن أبا عامر وأبا مالك كلاهما صحابيان فلا يضر أي واحد منهما كانت الرواية عنه([10]).

وجاء أيضا من طريق مَالِكِ بْنِ أَبي مَريم، عَنْ عَبد الرَّحمَن بْنِ غَنم، أَنه سَمِعَ أَبَا مَالِكٍ الأَشْعَرِيَّ، عَن النبيِّ (‘) قَالَ: ليشرَبَنَّ ناسٌ مِن أُمَّتِي الخَمرَ، يُسَمُّونَها بِغَيرِ اسمِها، يُضرَبُ عَلى رُؤُوسِهِم بِالمَعازِفِ والقَيناتِ، يَخسِف اللَّهُ بهمُ الأَرضَ، ويَجعَلُ مِنهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ".

أخرجه: البخاري في التاريخ الكبير (1/ 304) برقم (967) قال: وإنما يُعرف هذا، عَنْ أَبِي مالك الأشعري. وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 68) برقم (23758) وأحمد في مسنده ط الرسالة (37/ 534) برقم 22900) ولم يذكر المعازف وأبو داود في سننه ت الأرنؤوط (5/ 530) برقم (3688) ولم يذكر المعازف أيضا. وابن ماجه في سننه (2/ 1333) برقم (4020) وابن حبان في صحيحه (15/ 160) برقم (6758) والطبراني في المعجم الكبير (3/ 283) برقم (3419).

وقد أعلّ هذا السند ابن حزم بمعاوية بن صالح([11]) قلت: وقد وثقه غير واحد وروى له أصحاب الكتب الستة منهم البخاري ومسلم احتج به. وقد وثقه أحمد ويحيى بن معين وعبد الرحمن والعجلي والنسائي وأبو زرعة.([12]) قلت: ولعل بعضهم ترك حديثه لا من أجل ضبطه (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: مَا كَانَ بِأَهْلٍ أَنْ يُرْوَى عَنْهُ.

قُلْتُ -أي الذهبي-: أَظُّنُه يُشِيْرُ إِلَى مُدَاخَلَتِه لِلدَّوْلَةِ.)([13]).

قلت: والطريق الأول أقوى بكثير من هذا الطريق الذي صححه ابن حبان ولكن تبين أنه يحتج به لثبوته من الطريق الأول الصحيح.

وحتى تتم الفائدة نتمم الكلام عن الحديث دراية ونناقش بعض الإيرادات التي قيلت في دلالة الحديثين.

أما اللفظ الأول: (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ..)

أما قوله: الحِرَ فهو فرج المرأة وذلك أن الأصل في الفروج الحرمة فهو إما أن يستحلها بكتاب الله فتكون حلالا شرعا وإما أن يستحلها بغير ذلك فتكون من المحرمات وهو الزنى.

وهنا الحر والحرير والخمر محرمات لا إشكال فيها عند الجميع وقد عطف النبي (‘) المعازف عليها فهل يصح أن نقول عطَفَ الحلال على الحرام! وهل يصح أن نقول ترتب الوعيد على الثلاثة الأول ولم يترتب على المعازف والسياق واحد؟!

وقال بعضهم: (يستدل المحرمون بلفظ (الاستحلال) ، وأنها تدل على استحلال الحرام .

وهذا الإطلاق فيه نظر ؛ لأن الاستحلال قد يأتي في اللغة والشرع بمعنى إتيان الأمر وفعله ، حتى لو كان مباحا .)

قلت: ونحن أيضا لا ننكر كون الاستحلال يأتي بالمعنى الذي ذكرته؛ ولكن ننكر أنه بالمعنى المباح فيما يخص دليلنا الذي قلت بصحته! فقولك هذا غير سليم في كونك تعطي عذرا به لتسويغ الخلاف في الغناء.

والأدلة التي سقتها لبيان ان الاستحلال قد يكون في الشيء المباح لأنها مباحة في الشرع ونحن سقنا لك الحديث ذاته في المعنى الثاني في الاستحلال للشيء المحرم وأنا أجزم بأن كلامك في سوق مثل هذا ثرثرة الغاية منها جمع أكبر قدر ممكن من الدلالات التي تضعف تحريم الغناء.

وقال أيضا: (يستدلون باقتران المعازف بمحرمات أخرى ، وهي الزنا والحرير والخمر ، ويقولون : هذا الاقتران هو الذي يجعل لفظ (الاستحلال) هنا دالا على التحريم.

وهذا فيه نظر قوي ؛ لأنهم لم ينتبهوا أن ما سوى الخمر مما ذُكر في هذا الحديث ليس تحريمه تحريما مطلقا :

فـ(الحر) هو الفرج ، والفروج ليست كلها محرمة ، بل منها ما يحل (بالزواج وملك اليمين) ومنها ما يحرم (بغير ذلك) . فلو كان لفظ الاستحلال يدل على التحريم ، لوجب تقييد هذا اللفظ : بأن المقصود به : يستحلون ما حرم الله من الفروج .

وكذلك الحرير : فهو مباح للنساء ، ومباح منه للرجل قدر أربع أصابع . فينبغي تقدير الحديث على أنه أراد: يستحلون ما حرم من الحرير .

فلماذا لا تكون المعازف كذلك ، ويكون تقدير الحديث : ويستحلون ما حرم من المعازف والغناء ؛ إذ لا شك أن من الغناء ما يحرم ، كما لو صاحبه فحش من قول أو فعل .

قلت: ونحن أيضا نقول ليست كل المعازف كالدف حرام فيجوز منها ما ورد جوازه والتوسع فيه بالشرع كالضرب بالدف للنساء خاصة في أحوال خاصة كما جاء ذلك في صحيح البخاري (2/ 24):

عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ (¢)، دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنَى تُدَفِّفَانِ، وَتَضْرِبَانِ، وَالنَّبِيُّ (‘) مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ (‘) عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: «دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ، وَتِلْكَ الأَيَّامُ أَيَّامُ مِنًى».

قلت: ومن نفس هذا الحديث نأخذ المنع من المعازف لأن أبا بكر انتهرهما ونهاهما ووصفه بمزمار الشيطان وهذا يعني أن المنع متقرر عندهم ولكن أبا بكر لم يكن يعلم بالرخصة حتى بين له النبي (‘) ذلك.

وجاء أيضا في صحيح البخاري (5/ 82) برقم (5147):

عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ (‘) غَدَاةَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي، وَجُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِنَّ يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى قَالَتْ جَارِيَةٌ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ (‘): «لاَ تَقُولِي هَكَذَا وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ»

وهذا في يوم عرس وهو جائز أيضا للنساء.

وأخرج الترمذي في سننه ت شاكر (5/ 620) برقم (3690):

عن عَبْد اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي بُرَيْدَةَ، يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (‘) فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (‘): «إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلَّا فَلَا».

قال المباركفوري: قوله:(-إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا- فيه دلالة ظاهرة على أن ضرب الدف لا يجوز إلا بالنذر ونحوه مما ورد فيه الإذن من الشارع..)([14])

والمقصود أن المعازف لا تحرم مطلقا وهذا ما استثنته السنة وهو أن يكون للنساء في بعض الأوقات بشيء محدود جدا.

وأما أن نأخذ من هذه الأدلة جواز الغناء والموسيقى على الإطلاق وندخل في الحل ما ابتكره الغرب من الآلات الموسيقية الصاخبة والتي لا يشك أحد بكونها ذريعة الى الزنى ومفسدة للقلوب فهذا لا يقوله من عنده أدنى مسكة من فقه.

وقولك: (وأقل ما يقال : أصبح الحديث محتملا لمعنيين ، ليس أحدهما بأولى من الآخر ، وهو غاية ما نريد هنا .)

قلت: بل هو يؤكد -وليس يحتمل- أن المعازف تجوز في المواطن المستثناة وتمنع فيما عداها. أما قولك فيحتمل المعنيين تقصد الجواز المطلق وعدمه فهذا ممنوع بحديث الباب الصحيح.

 

وأما الحديث الآخر "ليشرَبَنَّ ناسٌ مِن أُمَّتِي الخَمرَ، يُسَمُّونَها بِغَيرِ اسمِها، يُضرَبُ عَلى رُؤُوسِهِم بِالمَعازِفِ والقَيناتِ، يَخسِف اللَّهُ بهمُ الأَرضَ، ويَجعَلُ مِنهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ".

قال فيه: اللفظ الثاني جاء لبيان تحريم الخمر خاصة ، ولا يدل على حرمة المعازف : -يقصد هذا الحديث- ولذلك لم يبوب البخاري وأبو داود للحديث بغير ذلك ... تبويب البخاري وأبي داود ، وإن وُجد سواهما من بوب للحديث على تحريم المعازف ، لكني أحتج هنا بفهم البخاري وأبي داود ، وأنهما لم يجدا فيه دليلا على تحريم المعازف .

قلت: وما أدراك أن البخاري وأبا داود لم يحرما المعازف هذا مجرد ظن. ثم متى أصبح فهم البخاري حجة حتى تحتج به وعندك دليلا صحيحا ظاهرا على حرمة المعازف. ثم لماذا تترك فهوم جماهير علماء الأمة الصريحة من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم وتأخذ بفهم أنت ظننته هكذا!!

وقال أيضا: ليس في الحديث بلفظه الثاني ما يدل على تحريم المعازف ، فقد ذكر أنهم يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها ، ثم ذكر أنهم يغنون بالمعازف والقيان : «يشرب ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض» . وهذا لا يلزم منه الدلالة على التحريم ، بل قد يكون دالا على الغفلة الشديدة ، فهم مع ارتكباهم لكبيرة شرب الخمر وتحايلهم على التحريم بتغيير اسمها ، ما زالوا غافلين بالغناء .)

قلت: بل يلزم لان الوعيد جاء على مجموع هذه الأشياء الخمر والقينات والمعازف فما الذي يخرج المعازف والقينات؟ أضف الى ذلك أن تحريم المعازف قد تقرر بحديث البخاري فكان كلا الحديثين مصدقا للآخر. وأما ظنك فقد أبعده ظاهر النص.

وقولك: الاختلاف في لفظ (الحر) و(الخز)

فهذا الاختلاف الواقع في الحديث من الوجه الذي أخرجه البخاري يدل على نقص في ضبط راويه ، ويجعل اللفظ الآخر أولى بالاعتماد .

قلت: ولم لا يكون العكس. وقولك هذا يرده الداودي قال: أحسب أن قوله: (من الخز) ليس بمحفوظ لأن كثيرا من الصحابة لبسوه([15]).

وقال ابن بطال (¬): (وأما الحر فهو الفرج، وليس كما تأوله من صحفه فقال: الخز، من أجل مقاربته للحرير فاستحل التصحيف بالمقارنة مع أنه ليس فى الخز تحريم، وقد جاء فى الحرير تحريم.)([16])

قلت: وحديث الباب له شواهد كثيرة من القران والسنة وأقوال السلف تدل على حرمة المعازف والغناء منها:

قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [لقمان: 6]

قال ابن القيم (¬): (.. ويكفى تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث: بأنه الغناء، فقد صح ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود.

قال أبو الصهباء: "سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: {ومن الناس من يشترى لهو الحديث} [لقمان: 6] فقال: والله الذى لا إله غيره هو الغناء -يرددها ثلاث مرات.

وصح عن ابن عمر (ƒ) أيضاً أنه: الغناء .

يوضحه: أنك لا تجد أحداً عنى بالغناء وسماع آلاته، إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى، علماً وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله الحال على أن يسكت القارئ ويستطيل قراءته، ويستزيد المغنى ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا: أن يناله نصيب وافر من هذا الذم، إن لم يحظ به جميعه. والكلام في هذا مع من في قلبه بعض حياة يحس بها. فأما من مات قلبه، وعظمت فتنته، فقد سد على نفسه طريق النصيحة.)([17]).

ومنها حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ (‘): نَهَى عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْكُوبَةِ وَالْغُبَيْرَاءِ، وَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»

وحديث ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَ نَشْرَبُ؟ قَالَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ، وَلَا فِي الْمُزَفَّتِ، وَلَا فِي النَّقِيرِ، وَانْتَبِذُوا فِي الْأَسْقِيَةِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِ اشْتَدَّ فِي الْأَسْقِيَةِ؟ قَالَ: «فَصُبُّوا عَلَيْهِ الْمَاءَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُمْ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ «أَهْرِيقُوهُ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ، أَوْ حُرِّمَ الْخَمْرُ، وَالْمَيْسِرُ، وَالْكُوبَةُ([18])» قَالَ: «وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» قَالَ سُفْيَانُ: فَسَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ بَذِيمَةَ عَنِ الكُوبَةِ، قَالَ: «الطَّبْلُ»

قلت: أخرجهما أبو داود برقم (3685) و (3696)وسكت عنهما وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح قال ابن الصلاح (¬): (فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورا مطلقا، وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن، عرفناه بأنه من الحسن عند أبي داود.)([19]).

قلت: وهذان الحديثان يدلان على حرمة الطبل ومن باب أولى حرمة المعازف والتي هي أشد لهوا وفتنة من الطبل.

ومنها حديث أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ (‘) قَالَ: " بَعَثَنِي اللهُ رَحْمَةً وَهَدًى لِلْعَالَمِينَ وَبَعَثَنِي لِمَحْقِ الْمَعَازِفِ وَالْمَزَامِيرِ، وَأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.. " قَالَ الشَّيْخُ (¢): " فَذَكَرْنَا شَوَاهِدَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ بِشَوَاهِدِهِ يَأْخُذُ قُوَّةً وَاللهُ أَعْلَمُ([20]).

قلت: وكل ما كان من أمر الجاهلية فنحن مأمورون بمخالفته كالمزامير وشبهها.

قال شيخ الإسلام (¬): (..وبالجملة قد عرف بالاضطرار من دين الإسلام: أن النبي (‘) لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة مع ضرب بالكف أو ضرب بالقضيب أو الدف. كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته واتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة لا في باطن الأمر ولا في ظاهره ولا لعامي ولا لخاصي ولكن رخص النبي (‘) في أنواع من اللهو في العرس ونحوه كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح. وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدف ولا يصفق بكف بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: {التصفيق للنساء والتسبيح للرجال} {. ولعن المتشبهات من النساء بالرجال. والمتشبهين من الرجال بالنساء} ". ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثا ويسمون الرجال المغنين مخانيث وهذا مشهور في كلامهم. ومن هذا الباب حديث {عائشة (~) لما دخل عليها أبوها -¢ - في أيام العيد وعندها جاريتان من الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث. فقال أبو بكر (¢) أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله (‘)؟ وكان رسول الله (‘) معرضا بوجهه عنهما مقبلا بوجهه الكريم إلى الحائط. فقال: دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا أهل الإسلام} ففي هذا الحديث بيان: أن هذا لم يكن من عادة النبي (‘) وأصحابه الاجتماع عليه ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان والنبي (‘) أقر الجواري عليه معللا ذلك بأنه يوم عيد والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد كما جاء في الحديث {ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة} " وكان لعائشة لعب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها وليس في حديث الجاريتين أن النبي (‘) استمع إلى ذلك. والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع؛ لا بمجرد السماع.)([21])

قلت: وهناك أحاديث تدل على حرمة المعازف أعرضت عنها لكونها لا تخلو من نكارة وفيما سبق ذكرى {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].

 

                        تم والحمد لله رب العالمين.



([1]) فتح الباري لابن حجر (10/ 53)

([2]) ينظر فتح الباري لابن حجر (10/ 52)

([3]) ينظر المحلى بالآثار (7/ 565) وقد

([4]) فتح الباري لابن حجر (10/ 53)

([5]) وموسى بن سهل وثقه الدارقطني وغيره ينظر موسوعة أقوال أبي الحسن الدارقطني في رجال الحديث وعلله (2/ 669)

([6]) وثقه الدارقطني وغيره: ينظر تاريخ دمشق لابن عساكر (14/ 92)

([7]) ينظر فتح الباري لابن حجر (10/ 53)

([8]) فتح الباري لابن حجر (10/ 53)

([9]) ينظر فتح الباري لابن حجر (10/ 54)

([10]) ينظر فتح الباري لابن حجر (10/ 54)

([11]) ينظر المحلى بالآثار (7/ 562)

([12]) ينظر سير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/ 161)

([13]) ضبطه سير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/ 160)

([14]) تحفة الأحوذي (10/ 122)

([15]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (21/ 176)

([16]) شرح صحيح البخارى لابن بطال (6/ 51)

([17]) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 240)

([18]) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (1/ 215)

الطبل الصغير المُخَصَّرُ.

([19]) مقدمة ابن الصلاح = معرفة أنواع علوم الحديث - ت عتر (ص: 36)

([20]) شعب الإيمان (8/ 475)

([21]) مجموع الفتاوى (11/ 565)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الآجرّوميّة