الاثنين، 22 فبراير 2021

رؤية الملائك

 




 بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين أما بعد:


من الأمور الثابتة بيقين أن الناس في هذا الزمان وفي كل زمان يمكن لهم مشاهدة الملائكة سواء كان المشاهِد ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا مسلما أو غير مسلم ولكن مشاهدة الملائكة من الأمور النادرة وقد يراها المؤمن كرامة له ويراها غيره لحكمة يريدها الله إما لهداية الشخص المشاهد أو لتبليغها لمن لا يؤمن بها أو غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها الا الله (™)

 

ورؤية الملائكة حقيقة ثابتة بالكتاب والسنة والاجماع سواء للأنبياء والرسل أو لغيرهم، ولكن يجب التنبيه هنا أن رؤية الملائكة على حقيقتهم التي خلقها الله ليست الا لنبينا محمد (‘) كما جاء في قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: 10] قَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ «رَأَى جِبْرِيلَ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ»([1]).

 

وكذلك قال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (ƒ)، سَمِعت النَّبِيَّ (‘)، يَقُولُ: " ثُمَّ فَتَرَ عَنِّي الوَحْيُ فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ، قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ، حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي"([2]).

 

فقد تبين أن النبي (‘) رأى جبريل (’) على شكله الحقيقي المهيب مرتين وقد خلق الله فيه قوة تجعله يتحمل رؤية مثل هكذا هيئة ومع ذلك لم تحصل له كثيرا.

وقد تُرى الملائكة على هيئة البشر من الرجال وهذا يحصل كثيرا سواء كان جبريل أو غيره من الملائكة. كما جاؤوا الى سيدنا إبراهيم وسيدنا لوط على هيئة الشباب وهم جميلي الوجوه والهيئة وحسان المنظر والمخبر قال تعالى: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ﴾.. ﴿فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الحجر: 51 - 64] وهذه الرؤية ليست مقتصرة على إبراهيم (‘) بل رأتهم كذلك زوجته سارة قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: 70، 71].

وكذلك ما حصل للصديقة مريم عليها السلام لما جاءها جبريل (’) وهي في خلوتها وبشرها بعيسى (‘) قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ [مريم: 17 - 19] وقد جاءها بصورة رجل جميل المنظر سوي البنية فحسبته بشرا ولكنه بين لها أنه جبريل.

 

وقال تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴾ [ص: 21، 22]، قال النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أنه يراد به ها هنا ملكان([3]).

 

وقد رأى السامريّ جبريل (’) مع كون السامريّ لم يكُ سويا، قال تعالى: ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ [طه: 95، 96]، قال الطبري (¬): (وذلك أنه جائز أن يكون السامري رأى جبرائيل، فكان عنده ما كان بأن حدثته نفسه بذلك أو بغير ذلك من الأسباب..)([4]).

 

وقد رأى الصحابة جبريل (’) عندما جاء الى النبي (‘) يعلمه مراتب الدين كما جاء في حديث جبريل الطويل وفيه: «هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ»([5]).

 

وقاتلت الملائكة يوم بدر مع النبي (‘) ضد المشركين وهم يومئذ خمسة الاف من الملائكة فيهم جبريل (’) وقد رآهم الصحابة والمشركون لانهم تشكلوا على هيئة فرسان، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (ƒ)، أَنَّ النَّبِيَّ (‘) قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: «هَذَا جِبْرِيلُ، آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ، عَلَيْهِ أَدَاةُ الحَرْبِ»([6]).

 

وقد مرض أبو بكر (¢) مرة فأتاه جبريل وعالجه وشفي في الحديث: دخل النبي (صلى الله عليه وسلم) على أبي بكر فرآه مقبلا فخرج من عنده فدخل على عائشة فإنه ليخبرها بوجع أبي بكر إذ دخل أبو بكر يستأذن فقالت عائشة أبي فدخل فجعل النبي (صلى الله عليه وسلم) يتعجب لما عجل الله له من العافية فقال ما هو إلا أن خرجت من عندي يعقوب فأتاني جبريل (’) يسعطني سعطة فقمت وقد برأت"([7]).

 

 

وكذلك رؤية الابرص والاقرع والاعمى للملك الذي أرسله الله على هيئة رجل مسكين يختبرهم كما جاء عن أبي هُرَيْرَةَ (¢): أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (‘)، يَقُولُ: " إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ (¸) أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا.."([8]).

 

وكذلك ارسال الله الملك الى أحد الصالحين ليبشره بحب الله له وما دار بينهما من الحديث فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ (‘)، " أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ، عَلَى مَدْرَجَتِهِ، مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ (¸)، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ "([9]).

 

وقد رأت أم المؤمنين أم سلمة (~) جبريل (’) عند النبي (‘) فعن أَبي عُثْمَانَ، قَالَ: أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ (’) أَتَى النَّبِيَّ (‘)، وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (‘) لِأُمِّ سَلَمَةَ: «مَنْ هَذَا؟» أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَ: قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ايْمُ اللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ (‘) يُخْبِرُ جِبْرِيلَ، أَوْ كَمَا قَالَ"([10]). وكان جبريل كثيرا ما يتشبه بدحية الكلبي (¢) وكان جميل الوجه. وكذلك ممن رأته من نساء النبي (‘) زوجه عائشة الصديقة بنت الصديق([11]).

 

وكذلك رأى أنس (¢) موكب الملائكة وهم في طريقهم الى بني قريظة حتى رأى غبار خيولهم فعَنْ أَنَسٍ (¢)، قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الغُبَارِ سَاطِعًا فِي زُقَاقِ بَنِي غَنْمٍ، مَوْكِبَ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ (‘) إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ».

وقد يكرم الله بعض عباده ويختصه برؤية الملك دون سائر الناس وهو أيضا على هيئة رجل الا انه محجوب عن بقية الناس الا من أراد الله له الرؤية كما حصل مع سعد (¢) يوم أحد فعَنْ سَعْدٍ، قَالَ: «رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللهِ (‘) وَعَنْ شِمَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابُ بَيَاضٍ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ (•)»([12]).

قال النووي (¬): (رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء بل يراهم الصحابة والأولياء وفيه منقبة لسعد بن أبي وقاص الذي رأى الملائكة)([13]).

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَادَ رَسُولُ اللهِ (‘) رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَنْزِلِهِ، سَمِعَهُ يَتَكَلَّمُ فِي الدَّاخِلِ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ دَخَلَ , فَلَمْ يَرَ أَحَدًا، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (‘): «سَمِعْتُكَ تُكَلِّمُ غَيْرَكَ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ دَخَلْتُ الدَّاخِلَ اغْتِمَامًا بِكَلَامِ النَّاسِ مِمَّا بِي مِنَ الْحُمَّى، فَدَخَلَ عَلَيَّ دَاخِلٌ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا قَطُّ بَعْدَكَ أَكْرَمَ مَجْلِسًا وَلَا أَحْسَنَ حَدِيثًا مِنْهُ، قَالَ: «ذَلِكَ جِبْرِيَلُ، وَإِنَّ مِنْكُمْ لَرِجَالًا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يُقْسِمُ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ»([14]).

 

وقد رأى حارثة جبريل عندما كان جالسا عند النبي (‘) فعَنْ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (‘) وَمَعَهُ جِبْرِيلُ (’) جَالِسٌ فِي الْمَقَاعِدِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَجَزْتُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ وَانْصَرَفَ النَّبِيُّ (‘) قَالَ: «هَلْ رَأَيْتَ الَّذِي كَانَ مَعِي؟» قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ رَدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ»([15]). وسؤال النبي (‘) لحارثة يدل على أن جبريل أتاه بصورة متخفية ولكن الله أكرم حارثة فرآه.

 

وكذلك أكرم الله ابن عباس (¢) برؤية جبريل دون أبيه العباس فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي عِنْدَ النَّبِيِّ (‘) وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يُنَاجِيهِ قَالَ عَفَّانُ وَهُوَ كَالْمُعْرِضِ عَنِ الْعَبَّاسِ، فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدَهُ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى ابْنِ عَمِّكَ كَالْمُعْرِضِ عَنِّي؟ فَقُلْتُ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ يُنَاجِيهِ، قَالَ عَفَّانُ: قَالَ: أَوَ كَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ كَانَ عِنْدَكَ أَحَدٌ؟ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَنَّ عِنْدَكَ رَجُلًا تُنَاجِيهِ قَالَ: «هَلْ رَأَيْتُهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «ذَاكَ جِبْرِيلُ، فَهُوَ الَّذِي شَغَلَنِي عَنْكَ»([16]).

 

وقد تكون للعبد درجة أعلى فيكرمه الله بمصافحة الملائكة وتبقى معه على هذه الحال كما حصل مع عمران (¢) فعَنْ قَتَادَةَ، «أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تُصَافِحُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ حَتَّى اكْتَوَى»([17]).

 

 

وقد يكرم الله بعض عباده فيراهم على شكل المصابيح والسرج كما حصل مع أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ (¢) فعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ، وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ، إِذْ جَالَتِ الفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، فَقَرَأَ فَجَالَتِ الفَرَسُ، فَسَكَتَ وَسَكَتَتِ الفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الفَرَسُ فَانْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى مَا يَرَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ (‘) فَقَالَ: اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، قَالَ: فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ المَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لاَ أَرَاهَا، قَالَ: «وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «تِلْكَ المَلاَئِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، لاَ تَتَوَارَى مِنْهُمْ»([18]).

 

وأحيانا يرى خيالا ويسمع صوتا كما حصل عند دفن سيدنا عثمان (¢) قال سَهْمُ بْنُ حُبَيْشٍ - وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ قَتْلَ عُثْمَانَ -: " فَلَمَّا أَمْسَيْنَا قُلْتُ: لَئِنْ تَرَكْتُمْ صَاحِبَكُمْ حَتَّى يُصْبِحَ مَثَّلُوا بِهِ، فَانْطَلِقُوا بِهِ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَمْكَنَّا لَهُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ حَمَلْنَاهُ وَغَشِيَنَا سَوَادٌ مِنْ خَلْفِنَا، فَهِبْنَاهُمْ حَتَّى كِدْنَا أَنَّ نَتَفَرَّقَ عَنْهُ، فَنَادَى مُنَادٍ: لَا رَوْعَ عَلَيْكُمْ، اثْبُتُوا، فَإِنَّا قَدْ جِئْنَا لِنَشْهَدَهُ مَعَكُمْ، وَكَانَ ابْنُ حُبَيْشٍ يَقُولُ: هُمْ وَاللهِ الْمَلَائِكَةُ "([19]).

وعن سعيد بن سنان قال أتيت بيت المقدس أريد الصلاة فدخلت المسجد وغفلت سدنة المسجد حتى أطفئت القناديل وانقطعت الرجل وعلقت الأبواب فبينا أنا على ذلك إذ سمعت حفيفا له جناحات قد أقبل وهو يقول سبحان الدائم القائم سبحان الحي القيوم سبحان الملك القدوس سبحان رب الملائكة والروح وسبحان الله وبحمده سبحان العلي الأعلى (´) ثم أقبل حفيف يتلوه يقول مثل ذلك ثم أقبل حفيف يتلوه يقول مثل ذلك ثم أقبل حفيف بعد حفيف يتجاوبون بها حتى امتلأ المسجد فإذا بعضهم قريب مني فقال آدمي قلت نعم قال روع عليك هذه الملائكة قلت سألتك بالذي قواكم على ما أرى من الأول قال جبرائيل قلت من يتلوه قال ميكائيل ثم قلت والذي يتلوهم من بعد قال الملائكة"([20]).

 

وأما من يقول لا تكون رؤية الملائكة الا لمن وصل مرحلة عالية من الصفاء والشفافية فقط فهذا غير صحيح قال ابن العربي (¬): (وأما رؤية المؤمن فكرامة، ولو كان رؤيتهم للملائكة - كما يقولون - لصفاء القلب فيتجلون فيه لاقتصرت رؤيتهم على القلب الصقيل، ولم يرهم قلب لصدأ ، قد تراكم بالرين، وهذا مما يمنعونه سرا، ولا يقدرون عليه جهرا، لأنهم يتظاهرون بالإسلام، فأما الفلاسفة فيمنعونه، وسيأتي الكلام معهم في طريقتهم ، في الأدلة، وعقيدتهم في الملة إن شاء الله تعالى. وقد سمعت الصحابة كلام الملائكة، وسمعها من لم يؤمن، ورأوها في صورة الآدمي، ورأوها في صورة النحل، ولم يكونوا من صفاء القلب، وقطع العلائق بحيث يشترطون في رؤيتهم، وإن كانوا من تقوى الإله، وفضل المعرفة، بأوفى مرتبة، فهذه دعاوى باطلة، لا أصل لها في منقول ولا معقول)([21]).

 

وقد حجب الله عن الناس رؤية الملائكة لأنه من الغيب وإنما يتميز المؤمن من غيره بإيمانه بالغيب قال القرطبي (¬) : (كما قد خصَّ عمران بن حصين بتسليم الملائكة عليه، وأسيد بن حضير برؤية الملائكة الذين تنزلوا لقراءة القرآن، وقتال الملائكة للكفار يوم بدر، ويوم أحد لم يخرج عن عادة القتال المعتاد بين الناس، ولو أذن الله تعالى لملك من أولئك الملائكة بأن يصيح صيحة واحدة في عسكر العدو لهلكوا في لحظة واحدة، أو لخسف بهم موضعهم، أو أسقط عليهم قطعة من الجبل المطل عليهم، لكن لو كان ذلك: لصار الخبر عيانًا، والإيمان بالغيب مشاهدة، فيبطل سر التكليف، فلا يتوجَّه لوم، ولا تعنيف، كما قد صرَّح الله تعالى بذلك قولًا وذكرًا، إذ قال: ﴿يَومَ يَأتِي بَعضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفسًا إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيرًا﴾..)([22]).

 

(ولقد علل المفسرون والمؤولون حكمة الله في إنزال الملك في صورة رجل إذا ما شاء إنزاله على بشر بأن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة أو أن الملائكة في أصلهم نورانيون لا يمكن أن يراهم البشر. فيشاء الله أن يتمثلوا لهم في صورة رجل)([23]).

 

قال ابن حجر (¬): (فيه أن الملك يجوز أن يتمثل لغير النبي (‘) فيراه ويتكلم بحضرته وهو يسمع وقد ثبت عن عمران بن حصين أنه كان يسمع كلام الملائكة)([24]) .

 

يتبين مما سبق أن الملائكة تتشكل بصور متعددة منها على شكل رجال أو على شكل مصابيح أو على شكل خيال ولكنهم لا يتشكلون بصور النساء لقول الله تعالى:﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا﴾ [الإسراء: 40]، وقال: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 19].

أو يُسمع لهم صوت بغير رؤية سواء كان الصوت بكلامهم كالسلام أو الأذان أو سماع حفيف أجنحتهم وغير ذلك. وأحيانا تُرى الملائكة لبعض الناس دون آخرين كما كان لابن عباس وعائشة وغيرهما (¢). وأحيانا تصافح الملائكة بعض الناس كما كان مع عمران بن حصين (¢).

 

ومما ينبغي التنبه له أن الملائكة لا تأمر بالفحشاء والمنكر ولا بترك الشريعة الثابتة ولا بالتحريض والافساد بين الناس ومن رأى شيئا من ذلك فليعلم أن ما رآه ليس ملكا بل شيطانا رجيما، وقد حدث للشيخ عبد القادر الجيلاني (¬) مثل هذه الفتنة فعن موسى ابن الشيخ عبد القادر، قال: سمعت والدي يقول: خرجت في بعض سياحاتي إلى البرية ومكثت أياما لا أجد ماء، فاشتد بي العطش فأظلتني سحابة، ونزل عليِّ منها شيء يشبه الندى. فترويت به. ثم رأيت نورا أضاء به الأفق، وبدت لي صورة، ونوديت منها: يا عبد القادر أنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات - أو قَالَ: ما حرمت على غيرك - فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. اخسأ يا لعين، فإذا ذلك النور ظلام، وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني، وقال: يا عبد القادر، نجوت مني بعلمك بحكم ربك وفقهك في أحوال منازلاتك. ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق. فقلت: لربي الفضل والمنة. قَالَ: فقيل له: كيف علمت أنه شيطان. قَالَ: بقوله: وقد أحللت لك المحرمات. وهذه الحكاية مشهورة عن الشيخ عبد القادر)([25]).

 

 

 

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 

 



([1]) رواه البخاري (4/ 115).

([2]) رواه البخاري (4/ 116).

([3]) تفسير القرطبي (15/ 165).

([4]) تفسير الطبري ت شاكر (18/ 362).

([5]) رواه البخاري (1/ 19).

([6]) رواه البخاري (5/ 81).

([7]) تاريخ دمشق لابن عساكر (30/ 215).

([8]) رواه البخاري (4/ 171).

([9]) رواه مسلم (4/ 1988).

([10]) رواه البخاري (4/ 206).

([11]) ينظر مصنف ابن أبي شيبة (6/ 389).

([12]) رواه مسلم (4/ 1802).

([13]) شرح النووي على مسلم (15/ 66).

([14]) دلائل النبوة للبيهقي مخرجا (7/ 76).

([15]) رواه أحمد (39/ 82).

([16]) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (2/ 955).

([17]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (18/ 107).

([18]) رواه البخاري (6/ 190).

([19]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (1/ 79).

([20]) تاريخ دمشق لابن عساكر (23/ 212).

([21]) النص الكامل لكتاب العواصم من القواصم (ص: 35).

([22]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 101).

([23]) التفسير الحديث (4/ 69).

([24]) فتح الباري (1/ 124).

([25]) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 196).


الآجرّوميّة