الموت: فضح
الدنيا، وكشف سترها، وأبان عورها، وأظهر مكرها، وأكّد غرورها.. هل يعقل: أن نستعد
للفانية، ونهمل الباقية؟! أين من غرته دنياه فباع آخرته من أجلها بأبخس الاثمان؟! فلم
يكسب الا ترابا يحوطه، ودودا ينهش جسده!
أين قارون
وكنوزه؟ وأين فرعون وجبروته؟ وأين هامان ووزارته؟ وأين أبو جهل وغطرسته؟ ذهبوا وذهبت معهم
أمانيهم الباطلة.
أين من شيّد
الجبال بيوتا، وأحكم الأهرامات حتى غدت قبلة السياح؟! ذهبوا وبقيت آثارهم لا
ينتفعون بها.
أين من حرق
إبراهيم (’)، ونشر زكريا (’) ، وقتل يحيى (’) وسمية وياسر، وعذب عمارا، وأضنى بلالا €؟ كلهم تحت الثرى، وشتّان: ما بين القاتل والمقتول، والمعذِّب والمعذَّب!
جعل الله لنا
الحياة عبرة، والموت موعظة، فمن اتعظ فإلى خير هُدي، ومن أتبع نفسه هواها واختار
الفانية على الباقية فلا يلومنّ الا نفسه.
عَنْ ابْنِ
عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -‘ -، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -‘ -، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟
قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟
قَالَ: "أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ
اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ([1])"([2]).
قال الشاعر
وصدق:
ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان
يبرئ مثله فيما مضى
هلك المداوي والمداوى والذي ... جلب
الدواء وباعه ومن اشترى
ولو خرج أحدنا
يتنشق نسيم البّر، أو يمرح في لُجَّة البحر، أو يطرب من جمال الفضاء، لأخذ كامل عُدَّته:
ما طاب من الطعام والشراب، وما جمل من الثياب، وما حسن من المركب، ولو نسي شيئا ثم
تذكره، تذكّره بحسرة ثم أخذ زَفْرَة! هذا كله وهي رحلة: تستغرق بضع ساعات أو أيام
معدودات! إذن فلِمَ لا نستعد لرحلة البقاء والوضوح والنقاء. رحلة يصحبنا فيها
الملائكة وافدين بنا على أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين حيث جنات عدن والنعيم
المقيم.
إخوتي: تذكُّر
الموت واستحضار البِلى: يطرد الأمل، ويقوي العزيمة، ويبعد الكسل، ويزيد القناعة،
به: تنعم القلوب، وتسعد الأفئدة، وتنصلح الألسنة، وتستقيم الجوارح، وبه: تنجلي
الهموم، وترتفع الغموم، وتهون المصائب، وتزول المتاعب.. {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ
اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
مر أمير المؤمنين علي
(¢) بمقابر الكوفة فقال: (السلام عليكم أهل
الديار الموحشة والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع. أما الأزواج فقد
نكحت، وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خير ما عندنا فما خير ما
عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما أنهم لو تكلموا لقالوا وجدنا خير الزاد
التقوى). وقال أيضا: (إنكم في أجل محدود، وأمل ممدود، ونفس معدود، ولا بد للأجل أن
يتناهى وللأمل أن يطوى وللنفس أن يحصى)([3]).
ويستعد المرء لهاذم اللذات: بإقام
الصلاة، وأداء الزكاة، وإتمام الصيام، وصلة الأرحام، وبرّ الوالدين، ودفع المظالم،
والتيسير على المعسرين، وتخفيف هموم المعوزين، وترك الأنانية: ببذل النفس والجاه
والمال، والعدل بين الناس، وكل عمل صالح تقدمه: يقدمك الى رضوان الله ونعيمه
المقيم{وَقُلِ
اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
[التوبة:
105].
عمر
العبد الله
13جمادى الآخرة1441ه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق