بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
ليس المقصود من
بحث مسائل النزاع تمييز الحق من الباطل بل لبيان الأقوى حجة والأقرب الى الصواب
للعمل بها. ومسألة الجهر بقراءة القران في صلاة كسوف الشمس من تلك المسائل التي
أحببت نشر كلام الفقهاء وبيان أدلتهم فيها لعلّنا نصل الى قول يطمئن له القلب.
ولعلّ من أهم
فوائد بحث المسائل الفقهية إعذار الطرف المخالف واحترام رأيه؛ لما يراه الباحث من
سعي العلماء الحثيث من الطرف الآخر لطلب الحق، ورحم الله الإمام الشافعي ورضي عنه
عندما قال:
قولي صواب
يحتمل الخطأ، وقول خصمي خطأ يحتمل الصواب.
والله أسأل
التوفيق والسداد والحمد لله رب العالمين.
عمر العبد الله
30جمادى الأولى1441
25/1/2020
تحرير محل النزاع:
أجمع العلماء
على سنية الجهر في كسوف القمر قال الماوردي رحمه الله: (أما صلاة كسوف القمر
فالجهر فيها مسنون إجماعا لأنها من صلاة الليل)[1].
ثم
اختلف العلماء في صلاة كسوف الشمس هل يجهر بها؟ على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور
العلماء([2]) منهم الحنفية([3]) والمالكية([4]) والشافعية([5]) والليث بن سعد ورواية عن أحمد([6]) وقول لمحمد صاحب أبي حنيفة([7])، الى الإسرار بالقراءة في صلاة كسوف الشمس.
قال السَرَخْسي (¬): (ولا يجهر بالقراءة في صلاة الجماعة في كسوف الشمس في قول أبي حنيفة -¢ - ويجهر بها في قول أبي يوسف -¬ - وقول محمد -¬ - تعالى مضطرب)([8]).
قال الخرشي (¬): (وعلى المشهور يتأكد ندب الإسرار فيهما كتأكد ندب الجهر في الوتر وليس من
شرطها الجماعة على المشهور، بل هي مستحبة)([9]).
وقال المزني (¬): (ويسر في خسوف الشمس بالقراءة؛ لأنها من صلاة النهار)([10]).
حجتهم:
· روي: «صلاة
النهار عجماء([11])». وبما أن صلاة الكسوف صلاة نهارية فلا يجهر بها([12]).
وأجيب: بأن هذا الحديث باطل لا أصل له قاله النووي (¬) في الخلاصة. قال الزيلعي (¬): (قلت: غريب، ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" من
قول مجاهد. وأبي عبيدة، فقال: أخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري، قال: سمعت أبا
عبيدة، يقول: صلاة النهار عجماء، انتهى. أخبرنا ابن جريج، قال: قال مجاهد: صلاة
النهار عجماء، انتهى. وقال النووي في "الخلاصة": حديث:
"صلاة النهار عجماء" باطل لا أصل له، انتهى.)([13]).
· عَنْ عَائِشَةَ (~)، قَالَتْ: ((كُسِفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (‘)، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (‘)، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَقَامَ فَحَزَرْتُ قِرَاءَتَهُ،
فَرَأَيْتُ أَنَّهُ قَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ - وَسَاقَ الْحَدِيثَ - ثُمَّ سَجَدَ
سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ فَحَزَرْتُ قِرَاءَتَهُ أَنَّهُ
قَرَأَ بِسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ))([14]).
· عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ
(ƒ)؛ أَنَّهُ قَالَ: ((خَسَفَتِ الشَّمْسُ،
فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ (‘)،
وَالنَّاسُ مَعَهُ. فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، قَالَ: نَحْوٌ مِنْ سُورَةِ
الْبَقَرَةِ))([15]).
· وعَنه (¢) قَالَ: ((صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (‘) الْكُسُوفَ، فَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ فِيهَا حَرْفًا مِنَ القُرْآنِ))([16]).
· وعَنْ سَمُرَةَ
بْنِ جُنْدُبٍ([17]) (¢)، ((أَنَّ النَّبِيَّ (‘) صَلَّى فِي كُسُوفٍ، فَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ صَوْتٌ))([18]).
قال الخطابي (¬): (قولها فحزرت قراءته يدل على أنه لم يجهر بالقراءة فيها ولو جهر لم يحتج
فيها إلى الحزر والتخمين.. وفي قوله فلم نسمع له صوتا دليل على صحة إحدى الروايتين
لعائشة أنه لم يجهر فيها بالقراءة.)([19]).
وقال البخاري (¬): (حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة.
وقال أحمد:
لكنه ليس بأصح من حديث ابن عباس)([20]).
وقال البيهقي (¬): (وكذلك رواه عبد الله بن المبارك، عن عبد الله بن لهيعة، وابن لهيعة، وإن
كان غير محتج به في الرواية، وكذلك الواقدي، والحكم بن أبان فهم عدد، وروايتهم هذه
توافق الرواية الصحيحة عن ابن عباس، وتوافق رواية محمد بن إسحاق بن يسار بإسناده،
عن عائشة، وتوافق رواية محمد بن إسحاق بن يسار بإسناده، عن عائشة، ويوافق رواية
سمرة بن جندب.
وإنما الجهر عن الزهري، فقط وهو وإن كان حافظا فيشبه «أن
يكون العدد أولى بالحفظ من الواحد، والله أعلم)([21]).
ورده ابن حجر (¬) فقال: (وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائد
فالأخذ به أولى)([22]).
قلت: الزيادة لا تقبل دائما عند المتقدمين ولو كان
صاحبها ثقة، ويطرأ الخطأ على الواحد ما لا يطرأ على الجماعة وقول البيهقي أمتن من
قول ابن حجر (†) وكتب العلل مليئة برد كثير من رواية الثقات لمخالفتها.
وقال الشافعي -¬ -: (فيه دليل على أنه لم يسمع ما قرئ، إذ لو سمعه لم يقدره بغيره. ويدفع
حمله على بعده رواية الحكم بن أبان «صليت إلى جنبه»)([23]).
وأجاب عن هذا التأويل بعض من يوافقون الامام على مذهبه فيقول
: (والحق أن تقدير ابن عباس لسورة البقرة لا يستلزم عدم سماعه؛ لأن الإنسان قد
ينسى المقروء المسموع بعينه وهو ذاكر لقدره فيقول قرأ نحو سورة كذا، فالأولى حمله
على الإخفاء لا بالنظر إلى هذه الدلالة بل بالنظر إلى ما تقدم من حديث «صليت إلى
جانب رسول الله -‘ -» وإذا حصل التعارض وجب الترجيح بأن الأصل في صلاة
النهار الإخفاء)([24]).
قلت: اذا صحت رواية عائشة ورواية ابن عباس (ƒ) فلا يخلو من إشكال([25])؛ لأن عائشة (~) تصلي عادة مع النساء في أخريات المسجد وهي تقول جهر-أي
سمعته- وابن عباس يصلي اقرب منها الى مقام النبي (‘) -وفي رواية ضعفها بعض العلماء الى جنب النبي (‘) -وهو يقول لم أسمع حرفا فكيف وصل الصوت اليها ولم يصل اليه وهو أقرب الى
مقام النبي (‘) منها اليه؟! ويحتمل أن عائشة (~) كانت تصلي في حجرتها وهذا يظهر من حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ (ƒ)، قَالَتْ:(( أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ (‘) حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ وَإِذَا
هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي، فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ، فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى
السَّمَاءِ، وَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ: أَيْ
نَعَمْ..))([26]). وحجرت عائشة (~) قريبة من مقام النبي (‘) وأما ابن عباس فإنه يصلي مع الصبيان خلف صفوف الرجال لذلك لم يسمعه خصوصا
أن المسجد امتلأ بالمصلين عند الكسوف، ولكن يعكّر عليه حديث ابْنِ عَبَّاسٍ (¢) قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ (‘) فِي كُسُوفٍ، فَمَا سَمِعْتُ مِنْهُ حَرْفًا». هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ
حَدِيثِ عِكْرِمَةَ وَيَزِيدَ، تَفَرَّدَ بِهِ الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَبْدِ
الْحَمِيدِ)([27]). ولكن هذا الحديث ليس مما يحتج به. قال ابن حجر: (ذكر
الشافعي تعليقا عن بن عباس أنه صلى بجنب النبي (‘) في الكسوف فلم يسمع منه حرفا ووصله البيهقي من ثلاثة طرق أسانيدها واهية
وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائد فالأخذ به أولى وأن ثبت التعدد فيكون
فعل ذلك لبيان الجواز وهكذا الجواب عن حديث سمرة عند بن خزيمة والترمذي لم يسمع له
صوتا وأنه إن ثبت لا يدل على نفي الجهر)([28]). وقوله: (وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائد
فالأخذ به أولى) لا نسلم به خصوصا إذا كانت القضية واحدة فهو إما جهر أو لا فلا بد
إذن من ترجيح والترجيح لا يكون بضرب رواية الجماعة من أجل رواية واحد وهذا هو
الشاذ عند المتقدمين أو نؤول رواية الفرد بما يتوافق مع رواية الجماعة حتى لا نطرح
رواية الثقة.
ولكن يبقى السؤال قائما: هل ابن عباس (¢) صلى بنفس مقدار المسافة التي كانت بين عائشة (~) وهي في حجرتها وبين مقام النبي (‘)؟ أم أنه أبعد منها بكثير بحيث لا يسمعه؟
ونذكر هنا: أن مساحة المسجد النبوي بلغت في عهد النبي (‘) مائة ذراع في مائة ذراع والذراع تقريبا 61))سنتمتر
فتكون مساحته تقريبا 61))مترا. ولنفترض أن ابن عباس وسمرة كانا في مسافة تقدر بستين مترا
عن النبي (‘) فهل يخفى عليهما صوته في هذه المسافة مع سكون الناس
وجهورية صوت النبي (‘)؟
والأمر لا يقف
الى هذا الحد لأن كل الروايات تدل على ما قاله ابن عباس (¢)، فسمرة (¢) لم يسمع أيضا، وجميع الرواة الذين حدثوا عن عائشة لم
يذكروا لفظة الجهر بل تفرد بالجهر الزهري (¬)؛ بل نفس الرواة من أصحاب الزهري الذين رووا عنه حديث عائشة في الجهر
اختلفوا فمنهم من نفاها وهم أصحابه المقدمون في الرواية عنه كمعمر ويونس وقسم
أثبتها وهؤلاء قد تكلم أئمة الحديث في روايتهم عن الزهري وهما سُفْيَانُ
بْنُ حُسَيْنٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، وغيرهما وقد ذكرهما البخاري في صحيحه.
قال ابو عمر: (وقد تابعه على
ذلك عن الزهري عبد الرحمن بن نمر وسليمان بن كثير وكلهم لين الحديث في الزهري)([29]).
وأما
الأوزاعي فرواه عن الزهري وهو أحسنهم في روايته عنه ولم يذكر الجهر عند البخاري
ولكن جاء عنه الجهر من طريق آخر عند غير البخاري.
وابن حجر (¬) جزم بصحة رواية الجهر فقال: (وأما رواية سفيان بن حسين
فوصلها الترمذي والطحاوي بلفظ صلى صلاة الكسوف وجهر بالقراءة فيها وقد تابعهم على
ذكر الجهر عن الزهري عقيل عند الطحاوي وإسحاق بن راشد عند الدارقطني وهذه طرق يعضد
بعضها بعضا يفيد مجموعها الجزم بذلك فلا معنى لتعليل من أعله بتضعيف سفيان بن حسين
وغيره فلو لم يرد في ذلك إلا رواية الأوزاعي لكانت كافية وقد ورد الجهر فيها عن
على مرفوعا وموقوفا أخرجه بن خزيمة..)([30]).
وردّه ابن الملقن (¬) فقال: (وأما سفيان بن حسين، وعبد الرحمن بن نمر، وسليمان بن كثير فكلهم
ضعيف في حديث الزهري، وفيما ساقه البخاري من رواية الأوزاعي، عن ابن شهاب، ولم
يذكر عنه الجهر ما يرد رواية الوليد عن أبي نمر في الجهر. فيبقى سليمان وسفيان،
وليسا بحجة في الزهري لضعفهما. وقد عارضهما حديث عائشة وابن عباس وسمرة)([31]).
وهنا نقول: هل رواية الزهري مخالفة لرواية غيره أم لا؟
يحتمل المخالفة إذا قلنا أن عدم سماع سمرة وابن عباس (~) يدل على عدم الجهر. ويحتمل عدم المخالفة إذا قلنا أن عدم السماع لا يلزم
منه عدم الجهر.
وتفرد الزهري([32]) (¬) قدح فيها بعض أئمة الحديث كما جاء في علل الحديث لابن أبي حاتم عَنْ حديثٍ
رَوَاهُ الزُّهري عَنِ السَّائب ابن يزيد؛ قال: ذُكِرَ عبد الله بْنُ شُريحٍ
الحَضْرَمي عِنْدَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ لا
يَتَوَسَّدُ القُرْآنَ ؟
فَقَالَ أَبِي: قَدْ تفرَّد الزُّهري بِرِوَايَةِ هَذَا
الْحَدِيثِ وأحاديثَ معه)([33]). و(قال الإمامُ أحمدُ (¬): حَديثُ عائشةَ -~- في الجَهرِ يَنفَرد به الزُّهرِىُّ)([34]).
وقال البيهقي (¬): (وكذلك رواه عبد الله بن المبارك، عن عبد الله بن لهيعة، وابن لهيعة، وإن
كان غير محتج به في الرواية، وكذلك الواقدي، والحكم بن أبان فهم عدد، وروايتهم هذه
توافق الرواية الصحيحة عن ابن عباس، وتوافق رواية محمد بن إسحاق بن يسار بإسناده،
عن عائشة، وتوافق رواية محمد بن إسحاق بن يسار بإسناده، عن عائشة، ويوافق رواية
سمرة بن جندب.
وإنما الجهر عن الزهري، فقط وهو وإن كان حافظا فيشبه «أن
يكون العدد أولى بالحفظ من الواحد، والله أعلم)([35]). أي أنه رد رواية الزهري لمخالفته الجماعة وجعل تفرده
علة قادحة ترد من أجله الرواية وإن ظهر من كلامه عدم الجزم التام. والبخاري احتج
برواية الزهري وذهب الى الجهر بصلاة الكسوف، والله اعلم.
***
القول الثاني: ذهب الحنابلة
وابن المنذر([36]) وأبو يوسف ورواية عن محمد([37])وإسحاق وبن خزيمة وابن حزم([38]) وابن العربي وابن تيمية([39]) وغيرهم الى الجهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس.
قال المرداوي (¬): ((ويجهر بالقراءة) ، هذا المذهب بلا ريب، وعليه أكثر الأصحاب، والجهر في
كسوف الشمس من المفردات)([40]).
قال الطحاوي (¬): (وقد كان النظر في ذلك لما اختلفوا أنا رأينا الظهر والعصر يصليان نهارا
في سائر الأيام ولا يجهر فيهما بالقراءة ورأينا الجمعة تصلى في خاص من الأيام
ويجهر فيها بالقراءة فكانت الفرائض هكذا حكمها ما كان منها يفعل في سائر الأيام
نهارا خوفت فيه وما كان منها يفعل في خاص من الأيام جهر فيه. وكذلك جعل حكم
النوافل ما كان منها يفعل في سائر الأيام نهارا خوفت فيه بالقراءة , وما كان منها
يفعل في خاص من الأيام مثل صلاة العيدين يجهر فيه بالقراءة. هذا ما لا اختلاف بين
الناس فيه , وكانت صلاة الاستسقاء في قول من يرى في الاستسقاء صلاة , هكذا حكمها
عنده يجهر فيها بالقراءة. وقد شذ قوله في ذلك ما روينا عن النبي (‘) فيما تقدم من كتابنا هذا في جهره بالقراءة في صلاة الاستسقاء. فلما ثبت ما
وصفنا في الفرائض والسنن ثبت أن صلاة الكسوف كذلك أيضا لما كانت من السنة المفعولة
في خاص من الأيام وجب أن يكون حكم القراءة فيها كحكم القراءة في السنن المفعولة في
خاص من الأيام , وهو الجهر لا المخافتة , قياسا ونظرا على ما ذكرنا)([41]).
قلت: هو يقدم
حديث عائشة في الجهر لأنه صريح فيه ورواية ابن عباس الصحيحة لا تنفي الجهر وانما
تنفي عدم سماعه. وكذلك اعتماده على القياس.
وقال الشوكاني (¬): (والصواب أن يقال: إن كانت صلاة الكسوف لم تقع منه -‘ - إلا مرة واحدة كما نص على ذلك جماعة من الحفاظ، فالمصير إلى الترجيح
متعين، وحديث عائشة أرجح لكونه في الصحيحين ولكونه متضمنا للزيادة ولكونه مثبتا
ولكونه معتضدا بما أخرجه ابن خزيمة وغيره عن علي مرفوعا من إثبات الجهر، وإن صح أن
صلاة الكسوف وقعت أكثر من مرة كما ذهب إليه البعض. فالمتعين الجمع بين الأحاديث
بتعدد الواقعة فلا معارضة بينها، إلا أن الجهر أولى من الإسرار؛ لأنه زيادة)([42]).
وقال ابن القيم (¬): (والذي ردت به هذه السنة المحكمة([43]) هو المتشابه من قول ابن عباس: «أنه صلى الكسوف فقرأ
نحوا من سورة البقرة» قالوا: فلو سمع ما قرأ لم يقدره بسورة البقرة.
وهذا يحتمل
وجوها؛ أحدها: أنه لم يجهر، الثاني: أنه جهر ولم يسمعه ابن عباس، الثالث: أنه سمع
ولم يحفظ ما قرأ به فقدره بسورة البقرة؛ فإن ابن عباس لم يجمع القرآن في حياة
النبي -‘ - وإنما جمعه بعده، الرابع: أن يكون نسي ما قرأ به وحفظ
قدر قراءته، فقدرها بالبقرة، ونحن نرى الرجل ينسى ما قرأ به الإمام في صلاة يومه،
فكيف يقدم هذا اللفظ المجمل على الصريح المحكم الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا؟)([44]).
تنبيه: قال القاضي عياض (¬): (قال الإمام: في كتاب الترمذي أنه جهر بالقراءة، وحكى أن مالكا قال به،
وهذا الذى حكاه الترمذي عن مالك رواية شاذة، ما وقعت عليها في كتاب سوى كتابه
وذكرها ابن شعبان عن الواقدي عن مالك)([45]).
***
حجتهم:
· عَنْ عَائِشَةَ
(~)، قالت: ((جَهَرَ النَّبِيُّ
(‘) فِي صَلاَةِ الخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ..))([46]).
قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: هَذِهِ سُنَّةٌ تَفَرَّدَ بِهَا أَهْلُ
الْمَدِينَةِ الْجَهْرُ([47]).
وأجيب: بأن (حديث عائشة (~) قد روينا عنها خلافه، على أننا نحمل قولها جهر على أحد وجهين:
إما على أنه
جهر بالآية والآيتين، أو على أنه أسمع نفسه وذلك يسمى جهرا، قال ابن مسعود: ما أسر
من أسمع نفسه)([48]).
وجواب آخر: أن هذا الجهر
كان في خسوف القمر.
وأجاب عنه ابن حجر (¬) فقال: (وليس بجيد لأن الإسماعيلي روى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد
بلفظ كسفت الشمس في عهد رسول الله (‘) فذكر الحديث وكذا رواية الأوزاعي التي بعده صريحة في
الشمس)([49]).
· وعَنْ حَنَشٍ
الْكِنَانِيِّ([50])، «أَنَّ عَلِيًّا جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي
الْكُسُوفِ»([51]).
قال السرخسي (¬): (وتأويل حديث علي -¢ - أنه وقع اتفاقا أو تعليما للناس أن القراءة فيها
مشروعة)([52]).
قلت: هذا الأثر
يقوي رأي الطبري (¬) أنه يتخير بين الجهر والإسرار. قال أبو عمر أحسن أبو
جعفر (¬)([53]).
***
الترجيح:
يظهر لكل باحث
من خلال عرض الأقوال وأدلتها والنقاش الحاصل بين الفقهاء أنّ الخلاف قوي والكفتين
متقاربتين ولكني أميل الى رأي الجمهور القائلين بعدم الجهر في صلاة كسوف الشمس
لأسباب أقواها أنّ في نفسي شيئا من حديث الزهري (¬): الذي تفرد فيه بالجهر، ولو تيقنت من صحته لما ترددت لحظة من قبوله والقول
بالمذهب الآخر.
ويعجبني قول
الطبري (¬) -لسعته-حيث خير بين الجهر والإسرار ويشهد له حديث علي (¢) وقد تقدم عنه الكلام.
***
[1] الحاوي الكبير (2/ 507).
([17]) قال ابن حزم ¬: (قلنا: هذا لا يصح؛ لأنه لم يروه إلا ثعلبة بن عباد
العبدي، وهو مجهول، ثم لو صح لم تكن لهم فيه حجة، لأنه ليس فيه أنه -’ - لم يجهر
وإنما فيه «لا نسمع له صوتا» وصدق سمرة في أنه لم يسمعه، ولو كان بحيث يسمعه لسمعه
كما سمعته عائشة -~ - التي كانت قريبا من القبلة في حجرتها، وكلاهما صادق
ثم لو كان فيه " لم يجهر " لكان خبر عائشة زائدا على ما في خبر سمرة،
والزائد أولى، أو لكان كلا الأمرين جائزا لا يبطل أحدهما الآخر، فكيف وليس فيه شيء
من هذا؟) المحلى بالآثار (3/ 318).
([32])
ينبغي التأكيد على أنه ليس كل تفرد له يرد ولكن بعضه بحسب القرائن مثاله: قال
العلائي: (خالف الزهري سائر الرواة في موضعين:
- أحدهما: في تسمية ذا اليدين ذا
الشمالين.
- والآخر: في أن النَّبِيّ -‘ -
لم يسحد سجدتي السهو، وقد غلَّطه الأئمة كلّهم في ذلك أيضًا". نظم الفرائد
(ص: 83).
وقال أحمد بن
حنبل: (إذا خالف الزهري يحيى فالقول قول يحيى). تاريخ الإسلام ت بشار (3/ 557).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق