الثلاثاء، 23 يونيو 2020

وذكّر




بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والقدوة المسداة نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

هذه كلمات نافعات في أمور متنوعات وأغراض شتى جمعتها لينتفع بها من أراد الله والدار الآخرة –أرجو أن أكون منهم- وقد كتب خير منها ولكني أرجو أن أوفق في توصيل الفكرة الراقية والمنهج المستقيم بصورة سلسلة وأسلوب يسير يفهمه العامّي ولا يملّه المختص.

وهذه الورقات القليلة والسطور اليسيرة عبارة عن مقالات وآخرها تغريدات تناولت مواضيع نافعة ترتقي بالمسلم الى الرقي الإسلامي والأدب المحمدي وهي تخاطب الصغير والكبير والذكر والأنثى والزوج والزوجة لترشدهم الى أحسن الأفعال وأفضل الأقوال راجيا من الله المثوبة وحسن الجزاء إنه وليّ ذلك والقادر عليه.

عمر العبد الله

الثلاثاء 7/شعبان/1441هـ

الموافق 31/مارس/2020م


 

خطورة التشتت

 

أكثر المشتتات في الزمن القديم كانت في الخارج -أعني خارج المنزل- وكانوا قديما ينتعشون اذا رجعوا الى بيوتهم لخلاصهم من ضجيج الحياة، وكثرة ما فيها من الصخب والملهيات؛ وأما زماننا هذا فلا يشبهه زمان خصوصا: في تشتيت الذهن وفقد التركيز؛ فالمغريات في كل مكان، والملهيات لا تحصى كثرة وأغلبها غير ضروريّ. ومن أعظم الأشياء التي تفقدنا التركيز هي: مشكلة العصر: الانترنت بصفة عامة، ومواقع التواصل الاجتماعي –فيس بوك، تويتر، يوتيوب...- بصفة خاصة، والذكاء الاصطناعي، ويستر الله مما نحن عليه مقبلون، حتى أصبحنا ننتقل من جهاز الى جهاز، ومن موقع الى آخر بشغف ومن غير رويّة فخسرنا أشياءنا الثمينة وأهملنا مهماتنا العظيمة بسببها!

 

كان الناس في عهد ليس بالبعيد -نحن أدركناه- إذا جلسوا في مكان واحد تواصلوا مع بعضهم البعض بكل مشاعرهم: بثّوا أحزانهم، وأظهروا همومهم، وتشاركوا في أتراحهم وأفراحهم.. وأما اليوم فقد سَلبت هذه الأجهزة تلك المشاعر الجميلة؛ فترى أبدانهم مجتمعة وأرواحهم متفرقة!

 

ولعلّ أعداءنا نجحوا فغيبونا عن أهم غاية ركز عليها القرآن الكريم في آيات كثيرة، وهي تدعونا الى التفكر والتأمل في آيات الله الكونية والشرعية، وتحثنا على تنظيم حياتنا اليومية قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وقال {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]، وغيرها من الآيات التي تصب في نفس المعنى، وكيف ننظر في آيات الله: وأبصارنا مرهقة بالنظر في أجهزتنا، وكيف نتبصّر في مخلوقات الله وعقولنا كلّت وضعفت بسبب الألعاب ومواقع التواصل!

 

نعم ربحنا التقنية؛ ولكنا خسرنا: أوقاتنا، حياتنا، إيماننا الكامل، ظفرنا بالسعادة الموهومة؛ ولكنا خسرنا السعادة الحقيقة، وكلّ ذلك سببه: إهمال التركيز في المهمات، وانغمارنا في اللهو.

 

وسر التخلّف في الدراسة أو الحياة عموما: هو تفريطنا في التركيز. لماذا أصبح العبقري عبقريا؟ لأنه ركّز في صنعته. ما الذي ميّز زيد على عمرو في دراسته حتى أصبح زيد في أعلى الدرجات، وخسرها عمرو؟ سبب ذلك بكل تأكيد هو: التركز من زيد والغفلة من عمرو.

 

إذا كان عندك مهمة تريد إنجازها، أو صنعة تحب إتقانها، أو تجارة ترغب في زيادتها: فتجنب الملهيات، والأمور الثانوية اجعل لها وقتا آخر: وسدّ كل باب يقضي على تركيزك، أغلق الهاتف، إن كنت جائعا فكل، وإن عطشت فروّ ظمئك، وإن بكى طفلك فحاول إسكاته، وإن نعست فارقد{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } [الشرح: 7] وباشر فيما كنت تريد إنجازه؛ فإنك إن فعلت ذلك أتقنت عملك ورضي عنك ربُّك ورضي عنك الناس.

ومن أهم ما يزيد قوة التركيز التأمل في الطبيعة بعيدا عن صخب الأسواق وضجيج المجالس، والتفكر في خلق الله: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 17 - 21] وقد أفلح من تذكّر؛ فعمل لدنياه وآخرته، وآخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

 

rrr

 

الزمن الضائع

 

أناملنا تشتكي الى الله من ظلمنا! ففي زماننا هذا لا راحة لها: تكدّ آناء الليل وأطراف النهار، تتنقل من جهاز الى آخر، ومن لعبة الى أخرى، بها نقلب الصفحات لا أعني صفحات القرآن؛ بل صفحات الانترنت. أنا لست ضده مطلقا بل ضد ظلم تلك الأنامل المسكينة التي لا تملك لسانا تبوح به عن ألمها!

 

وأما أبصارنا فأرهقتها تلك الشاشات: شاشة كبيرة وأخرى صغيرة، لا نفارقها ولا تفارقنا، ترهقنا ونرهقها غير أننا نحاسب ولا تحاسب.

 

أحبابي في الله: أرواحنا خلقت لننعم بها لا لنعبث بها، نريحها لا لنعذبها، ننتشلها لا لنغرقها في وحل صفحات اللهو والعبث.

 

أريحوا جوارحكم، غذوا أرواحكم، طهروا قلوبكم، ارحموا أنفسكم: لا تهلكوها بكثرة الصور، ولا ترهقوها بمثل أفعال الغجر. لقد الهانا العكوف على الملهيات؛ فأنسانا الاعتكاف في زوايا المسجد.

 

لا تظنوا بمن صنع هذه الأجهزة صنعها ليروي ظمأ قلوبكم، أو ليؤنس وحشتها؛ بل ما صنعها الا ليملأ جيبه ويشبع رغبته!

 

ثم إن الله أرشدنا الى فلاحنا فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]. وما استبدل قوم كتاب ربهم بغيره الا سلبهم عزهم وعاقبهم بالشقاء.

أما يستحي أحدنا أنه: لا يملّ من كلام الناس ومن كلام ربه يمل! أما يخجل أحدنا أن يقلب صفحة أو صفحتين من كتاب ربه ثم هو شغوف بحروف أصدقاءه ليله ونهاره. والله إن حالنا لا يسرنا؛ بل يسر أعداءنا، وما كنا نحذره وقعنا فيه.

 

والعجب أننا نجد أوقاتا للهو واللعب، ولا نجد مثله للذكر وقراءة القرآن! فهل هذا ضعف إيمان؟ لعله كذلك. قال سيدنا عثمان (¢) (لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم).

 

إخوتي: لهوكم اليوم هو ضياعكم، وضياعكم هو ضياع أجيالكم من بعدكم. يا ترى ماذا سيقول أبناءنا من بعدنا؟ سيقولون: الكافر يصنع الجهاز والمسلم يعبث به!

 

هل بعد أن كنا عظماء يخفون صبيانهم بنا! أصبحنا اليوم فاكهة مجالسهم يتضاحكون علينا، ومنا يسخرون!

 

إخوتي: لقد ألبسنا الله لباس الخيرية حين قال: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وإنكم إن خلعتم لباسكم هذا تضيعوا وتهلكوا.

 

 

 

 

rrr

 

 

 

 

 

القبيلة ومصيدة الشيطان

 

دار بنا الزمان حتى عاد الى الجاهلية الأولى: يتفاخرون بالأنساب ويتمادحون بالأحساب سلفهم في ذلك أبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وغيرهم. وقد نسي هؤلاء أو تناسوا أنّ أجدادهم ما رُفعوا ووضعت أمامهم الأمم الا بالإسلام كما قال الفاروق عمر (¢): "إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ"([1]).

 

وهؤلاء عقدوا الولاء والبراء للدم دون الإسلام: تراهم إذا أهينت قبيلتهم يزبدون ويرعدون، وإذا أهين الإسلام خارت قواهم، ووهنت حميّتهم، وتفرقوا ولسان حالهم يقول: للبيت ربٌ يحميه.

 

وركوب موجة القبلية كوَرِك على ضِلَع، وبلية عظيمة لابستهم ولابسوها، وفتنة عمياء صماء سودت قلوبهم ومنها تمكنت. وجهل هؤلاء أن من جعل ولاءه للإسلام دون ولاءه للقبيلة فهو الى النفاق أقرب منه الى الإيمان!

 

وأين تلك القبائل التي يفخرون بأمجادها ويرخصون لها الدماء؛ بالإسلام اندثرت حتى غدت أمة واحدة قوية ومتماسكة: أطفأت نار المجوس، وحطّمت صليب الصليبيين، وامتدت دولتهم حتى بلغت حدود الصين شرقا وجنوب فرنسا غربا، وفتحت أفريقية، والمغرب، والأندلس، وجنوب الغال، والسند، وبلاد ما وراء النهر!

 

ولم يمكّن لهم هذا التمكين لأنهم أبناء هذه القبيلة أو تلك؛ بل مكّن لهم لأنهم أبناء الإسلام عقيدة ومنهجا وسلوكا.

 

ومن يعتزّ بقبيلته دون الإسلام، أو يفخر بها دونه: فهو أهون على الله من الجعلان قال رسول الله (‘): ((لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ([2]) الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ))([3]).

 

وما جعلنا الله شعوبا وقبائل الا لنتعارف ونتعاون لا لنتفاخر ويهلك بعضنا بعضا.

 

ولسان حال أكثر المسلمين اليوم يحاكي قول الشاعر الجاهلي:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد.

وقد أبطل الله هذه الدعوة وأمر بخير منها فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]: وحبل الله هو ما نلوذ به ونعتصم، وأما بقية الحبال فحبال الشيطان نبرأ الى الله ونعوذ به منها.

 

ونختم بدعوة النبي (‘) حيث قال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ([4]) الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ))([5]).

 

 

 

rrr

 

أنين المساجد

 

إخوتي في الله: مسجدكم هذا يتوجّع من فراقكم له؛ وصلاتكم فيه شفاء له!

أحبابي في الله: علامَ يهجر أحدكم مسجده ثم يعمر سوقه، ينشرح صدره في مكان لهوه ويضيق إذا توسط محرابه! هذه مشكلة قائمة نبحث عن حلّ لها وأعلم أنّ حلهاّ بأيديكم: بسعيكم الى مسجدكم وصلاتكم فيه واعتنائكم به..

أنا لا أقول لكم إنّ صلاتكم في المسجد -عدا صلاة الجمعة-فرضُ عينٍ عليكم –وإن قال به جماعة من فحول العلماء- ولكنّي أسألكم فأقول: هل ترضون أنّ ثمّة مسجد قائم غير أنه لا تقام فيه جماعة؟! هو ليس في البيداء ولا في أرض عدوّ؛ بل في أرض منعة يحوطه ناس كثر ولكنّهم: اعتادوا أن يعمروا الجمعة ويتركوا الجماعة!

ثم هل يستقيم لنا أن نصلي في بيوتنا ونعلم يقينا أنّ مسجدنا الذي بيننا وبينه بضعة أمتار لا يصلي فيه الا الإمام؟! أو قد يفطن له عابرُ سبيل فيلتحق به!

بل أنا على يقين أنه لو انقطع عن هؤلاء الماء أو تأخرت عنهم برمجة الكهرباء لخرجوا الى الطرق زَّرافات إثر زَّرافات يتساءلون، وعن حلِّ هذه المشكلات يبحثون. وأما المسجد فلا بواكي له –فهو لا يعنيهم ولا هم به يبالون-.

أنا لا أدعو الى المسجد: ذلك المريض العاجز ولا من يقوم على رعايته حتى أنه يخشى من هلاكه لو تركه لحظة سعيه الى المسجد.

 

ولا أدعو اليه: ذلك الأعمى الذي لا قائد له وهو يخشى أن يصطدم بتلك الصخرة، أو يقع في تلك الحفرة التي تتوسط طريقه الى المسجد.

 

ولا أدعو اليه: تلك المرأة فتترك حق زوجها وأولادها لتحيي مسجدها وصلاتها في بيتها خير لها.

 

ولا أدعو اليه: من ألمّ به عذر أو أحاط به أمر يثقل عليه السعي الى المسجد؛ بل أدعو: ذلك الشابّ العاقل، وذلك الرجل القادر: أن يشعروا بمحرابهم الذي يئنّ من ألم فراقهم وهجرانهم له.

وإني لأقول: بأنّ شفاء صدورنا ودواء قلوبنا في ذلك السجود الذي يحوطه المحراب. ووالله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق: 37].

 

rrr

 

 

دردشة مع داعية

 

إذا ارتقيت أيها الداعية عتبة الدعوة وكابدتها فاعلم أن هذا محض اختيار الله لك. والدعاة في هذه الأمة كالرسل في الأمم قبلنا لا أزعم أنهم في مرتبة واحدة ولكنهم في طريق واحد ودعوتهم وغايتهم واحدة: إذن هم يشتركون في المصاعب والمتاعب من أقوامهم بسبب دعوتهم. واسشعار الداعية اختيار الله له يخفف عنه أعباء الدعوة.

 

ويجب على الداعية أن يفرق بين وظيفته كداعية وبين الوظائف الأخرى، وليعلم أيضا: أنّ الله اختاره مرشدا لا قاضيا؛ فإن تصرف الداعية في دعوته تصرف القاضي فشلت دعوته وربما انتكس!

 

قد لا يكتب النجاح لدعوة داعية إذا لم يملك شفقة الأب وحنان الأم ومن ملك هاتين الصفتين ملك قلوب العباد، ومن ملك قلوبهم: فعلوا ما أرشدهم إليه وتركوا ما نهاهم عنه بقلوب راضية.

 

ومن أصعب الدعوات دعوة الناس اليوم؛ لحجم الانفتاح الهائل الذي سببته التقنية الحديثة، وعلى الداعية جهد مضاعف بتعلم ما يحتاجه من التقنية لتسخيرها في دعوته لتحصل الموازنة بين دعوتنا ودعوتهم.

 

وعلى الداعية أيضا أن يعمل مع المؤسسات الدعوية ما أمكنه؛ لأن العمل تحت مظلة العمل المؤسسي له نتائج مبهرة وسريعة وتكسب الداعية مهارة وحبا لما يقوم به، والعمل الجماعي من أسباب تثبيت الداعية واستمراره في دعوته، قال رسول الله (‘): ((عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ))([6]).

 

وتعايش الداعية مع الناس يكسبه خبرة في معرفة طبقات الناس ومن عرف طبقاتهم ودرجات أفهامهم استطاع ان يفتح مغاليق قلوبهم، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، وتنوع الدعوة من خلال هذه الآية الكريمة سببه تنوع طبقات الناس واختلاف تعاملهم مع الداعية؛ فكان من المناسب تنوع الدعوة بتنوعهم: وعليه فلا يصلح أن يجادل الداعية من أقبل عليه بقلبه وقالبه، والحكمة تقتضي أن يجادل الداعية بالحق من يجادله بالباطل، وأما من تردد في قراره، ونفسه تنازعه في الشهوات والشبهات، وهو بين إقبال وإدبار فالموعظة لمثله شفاء.

 

والداعية الناجح كالطبيب الناجح يشخص للمريض الداء ثم يعطيه الدواء بقدره؛ ذلك: أن زيادة الدواء تقتله، ونقصه لا يشفيه. ومن يشفي نفسا تنعم في الدارين خير ممن يشفي نفسا تنعم بدار فانية.

 

 

 

rrr

 

مزالق في طريق الدعوة

 

لا أقول للداعية -الى الله- اذا تجنبت مزالق الدعوة وعملت بما يضادها من الخير: ستنقلب حياتك ورديّة من غير تعب ولا منغصّات؛ بل المكدرات لا تنفك عن الداعية ما دام سيره في هذا الطريق، ونهاية هذا الطريق الجنة بلا شكّ، وطريق نهايته الجنة لا يكون سهلا؛ بل يكون طريقا موحشا تحوطه الآفات من كل جانب؛ ولكنّ الله يفتح على بعض عباده: يختارهم، يوفقهم، يهيئهم لأمره العظيم، يسيرون فيه فيَغلِبون ويُغلَبون سنة الله الماضية في خلقه والعاقبة للمتقين.

ومزالق الدعوة متنوعة ومتفاوتة الخطورة: فمنها ما يؤثر تأثيرا ذاتيا، ومنها ما يؤثر على الأمّة ومزالق الداعية على سبيل المثال هي:

 

1-   الكبر والحرص:

وهما صفتان قبيحتان مذمومتان تسببتا بإخراج إبليس من الجنة ولزمته اللعنة بسببهما. والداعية المتكبر لا يصل كلامه الى قلوب الناس وتمجّه الأسماع والكبر يهدم جميع الجسور والقنوات التي تربطه بمن حوله فلا هو نفع نفسه ولا الناس نفعهم.

وأما الحرص: إن لم يهدم الدعوة فإنه يضعفها. ومن الحرص حرص الداعية أن يعمل في الدعوة وحده ولا يشرك أحدا فيها لأسباب كثيرة تتعلق بحظوظ النفس الأمارة بالسوء.

 

2-   تساوي الداعية والمدعو في الخُلق:

جبلت النفوس أن تأخذ ممن هو أعلى منها دينا وخلقا؛ وأما النفوس المتساوية في الصفات فيستحيل أن تكون قدوة لبعضها، والداعية قدوة ويجب عليه أن ينهض بنفسه عن مستوى المدعوين حتى يكتب لدعوته القبول.

 

3-   التصنيف:

منذ أن خلق الله الخليقة والناس أصناف فصنف هابيل يختلف عن صنف قابيل وهكذا.. ولكن لا يعني هذا أن نقدم التصنيف على حساب الدعوة هناك قضايا أساسية مهمة ومشتركة ممكن أن نترك التصنيف عندها فإذا كان المدعو ملحدا فما يهمني أن أتعاون مع صنف آخر اشترك معه في مئات المسائل واختلف معه في آحادها من أجل إنقاذ نفس من ظلمة الالحاد الى نور الإسلام، ولو غرق إنسان فذهب من ينقذه ولكنه يعجز عن إنقاذه لوحده فرآه من يختلف معه هل يمنعه من مساعدته، أو يتوقف الآخر لحظة: بسبب اختلافهما، لو ترك هذا ومنع ذاك من أجل اختلافهما لعدوهما الناس مجنونين.

 

4-   عدم التأهل علميا-الجهل-:

أي داعية لا يملك ما يكفي من العلم سينزلق ويزلق غيره عن الصراط المستقيم، وواقعنا شاهد على ذلك؛ فكم من الناس كرهوا الدين بسبب فلان وعلان لأنه أجبرهم على فعل شيء-بحسب رأيه- ويسعهم غيره: وسبب هذا المزلق: علم ضئيل، وتجنب النظر في مقاصد الشريعة والجهل في اختلاف العلماء فيظن الداعية أنه على شيء وهو لا شيء، ويحسب أنه على خير وهو في الشر واقع ولا يدري!

لذلك أختار رَسُولُ اللَّهِ (‘) معَاذَ بْنَ جَبَلٍ -وهو أعلم الصحابة بالحلال والحرام- حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ وقال له: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»([7]). ولم أختار معاذ بن جبل (¢) لأنه يدعو الناس على بصيرة، ومع كون معاذ (¢) من علماء الصحابة الا أن النبي (‘) لم يتركه بلا خطة فرسمها له، ووضع له النقاط على الحروف. لذلك يجب على الداعية أن يتسلح بالعلم وسعه فإن جهل فإنه يستعين بأهل العلم، فإن أنفت نفسه ذلك فليترك الدعوة لغيره.

 

5-   جهل الأولويات:

من مزالق الدعوة عدم ترتيب الأولويات، فلا يحسن بالداعية أن يبدأ بصلاح الأباعد ويترك دعوة أهل بيته، ويترك قبيلته لانشغاله بقبيلة أخرى قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] وفي الحديث: ((ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ))([8]).

وأما فيما يخص نفس الدعوة فلا يبدأ الداعية بالفرع ويترك الأصل، وقد حصلت مآسي بين المسلمين بسبب الجهل بالأولويات فقد رأينا من فرق جماعة المسلمين لرأي -وأيّ رأي- وشاهدنا من تسبب بقتل الناس وإرعابهم بسبب سنة مختلف فيها! ولعلّ الساحة اليوم أفضل بكثير من ذي قبل لكثرة الأحداث التي صقلت النفوس وهذبت العقول والله المستعان.

6-   فظاظة الجانب وقسوة القلب:

وهذه الصفة من أعظم الصفات التي تزلق الدعاة، وهي السدّ المنيع بين الداعية والجمهور؛ فيستحيل نجاح دعوة بوجود هذه الصفات القبيحة لذلك نزه الله نبينا الكريم (‘) عنها فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] وأي دعوة ليس فيها رحمة فهي ميتة.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ (¢)، ((أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ (‘) جَالِسٌ فَصَلَّى قَالَ ابْنُ عَبْدَة: رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ (‘): لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَأَسْرَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ (‘) وَقَالَ: إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ، صُبُّوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ)). هذه الدعوة هي التي تأسر قلوب الناس لذلك دخلوا في دين الله أفواجا.

وقد رأينا من فظاظة بعض الدعاة وقساوة قلوبهم: سواء مع إخوانهم وشاكلتهم أو مع غيرهم: ما تعجز عن تسطيره الأقلام! وينبغي على كل داعية أن يلزم الجادة فلا يبغي على إخوانه ولا يقسو على الخلق، قَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: أَوْصِنِي قَالَ: «أَخَفِ مَكَانَكَ لَا تُعْرَفُ فَتُكْرَمُ بِعَمَلِكَ , وَاخْزِنْ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ وَتَعَاهَدْ قَلْبَكَ أَنْ لَا يَقْسُو , وَهَلْ تَدْرِي مَا قَسَاوَةُ مَنْ أَذْنَبَ»([9]).

 

7-   العجلة:

السلامة في التأني. والعجلة تجلب المهالك، وتضيع الحقوق. ومن يدعو الى أمر عظيم لا يستقيم له أن يعجل وفرضه التأني ولا يخيب من تأنى قبل الحكم، وتفكر قبل الإقدام. ويفشل من يبنى دعوته على ردات الفعل؛ فالدعوة الى الله عظيمة ولعظمتها يجب الا تخلو من التخطيط والرويّة. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - -: "يَا أَشَجُّ، إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ ورسوله: الْحِلْمَ، وَالتُّؤَدَةَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَشَيْءٌ جُبِلْتُ عَلَيْهِ، أَمْ شَيْءٌ حَدَثَ لِي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - -: "بَلْ شَيْءٌ جُبِلْتَ عَلَيْهِ"([10]).

 

8-   التعصب:

التعصب أو العصبية صفة رديّة وهي صفة أهل الجاهلية ويجب على الداعية أن ينزه نفسه عنها، وليعلم من يدعو الى الله: أن الإسلام أوسع دائرة من الحزبية والقبيلة والمذهب، ولا قدسية الا للإسلام.

ولا يحرم الإسلام اتباع المذاهب ولكن يحرم التعصب لها وترك الحق من أجلها و{الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [آل عمران: 19] والكل يخضع له ويكون تحت حكمه وفي ظلّه، ولا يجوز جعل حكم الأشخاص فوق حكم الإسلام مهما علا شأن فلان أو علان من الناس، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الحَقَّ} [النساء: 171] وفي الحديث: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ))([11]).

9-   جهل الواقع:

من أهم أولويات الداعية أن يفهم واقعه جيدا واقع الأشخاص أو واقع المجتمع المقصود بدعوته ومن دعا الى الله وجهل واقعه؛ كمن يحاول فتح باب بمفتاح مكسر الأسنان!

قال ابن القيم (¬): (ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان - - بقوله: " ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما " إلى معرفة عين الأم، وكما توصل أمير المؤمنين علي - - بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب ما أنكرته لتخرجن الكتاب أو لأجردنك إلى استخراج الكتاب منها.

وكما توصل الزبير بن العوام بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول الله - - حتى دلهم على كنز جبى لما ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله: المال كثير والعهد أقرب من ذلك، وكما توصل النعمان بن بشير بضرب المتهمين بالسرقة إلى ظهور المال المسروق عندهم، فإن ظهر وإلا ضرب من اتهمهم كما ضربهم، وأخبر أن هذا حكم رسول الله - -.

ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله..)([12]).

 

 

 

rrr

 

رنة هاتف

 

قرّب الهاتفُ الزمانَ، وقلّل الجهدَ والمالَ. نعمة اكتشفها العقل البشري يسّرت لنا كثيرا من مشاغل الحياة؛ ولكن سرعان ما انقلبت هذه النعمة الى نقمة عندما أسأنا استخدامها.

 

ما أريد التعقيب عليه: هي تلك الرنّة -التي تختلف باختلاف أصحابها فمنها رنّة صاخبة وأخرى هادئة- هذه الأصوات أصبحت مألوفة للمصلين في المساجد، هذه المساجد: التي كانت معظّمة كل هذه السنين قبل صنع الهاتف -لا نسمع فيها الا تكبيرات الأذان، والصلاة، وهمسات الذاكرين، ونصيحة الناصحين، وموعظة الواعظين، نرى الراكعين، وننصت فيه لآيات الذكر الحكيم.

 

أما اليوم فعند الأذان يرنّ الهاتف بموسيقى غربية، وعند انتظار الصلاة يرن بموسيقى شرقية، وعند الإقامة يطنطن هاتفه؛ فبدل من أن يغلقه يخرج ليكلّم حبيبته-زوجته- أو يتمّ بيعته! وفي أثناء الصلاة نسمع مزيجا من الألحان تسرق منا خشوعنا هدؤنا صلاتنا..؛ بل بعض الهواتف إذا رنّ: نحسب أنفسنا في ضجيج عرس، أو صخب محفل: هذا حال صلاتنا ومساجدنا أيامنا هذه!

 

وللأسف أصبحنا اليوم لا نفرق بين الشارع وبين بعض المساجد لكثرة ما فيها من اللغو واللهو، أثّر اللاهون اللاغون على الذاكرين الساجدين وقد حُرِمَ بعضُ المسلمين لذّة الجلوس في المسجد بسبب هؤلاء –هداهم الله-.

 

قال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36، 37، 38]، الهواتف اللعينة: الهتنا حتى غيبت عقولنا عن هذه الآية الكريمة وهي ترشدنا الى تعظيم بيوت الله، والترفع عما لا يليق بها، وتعظيمها أو تخليصها من قاذورات أهل اللهو واللغو من صفات أهل الله وخاصته.

 

أيها العقلاء: مساجدكم والصلاة فيها: فرصة ثمينة لتغذية العقل والروح، لا تحرموا أنفسكم لذّة الأنس بالله، ولا تعدموها السكينة التي تتنزل على المصلين، ولا تجعلوا هواتفكم تختلس الطمأنينة التي أنعم الله بها عليكم، ولا تعارضوا كلام الله بكلام البشر.

 

إن ارتقيتم بصلاتكم رقت بكم، وإن رفعتموها رفعتكم، وإن وضعتموها وضعتكم. صلاتكم صِلَة بينكم وبين ربكم؛ فلا تسمحوا لرنين هواتفكم قطع تلك الصلة المباركة.

 

 

rrr

 

 

كورونا، وبعوضة النمرود!

نزل فايروس كورونا-عافانا الله منه- كالصاعقة يذل الله به كبرياء الصين.. يقال إن هذا الفايروس لم يجدوا له اسما الى الان! ولكنه من فصيلة كورونا، وهذا الفايروس ليس كأمثاله ممن سبقوه يبقى سنة ثم يتغير؛ بل إنه يتغير كل ثلاثة أشهر! مما يجعلهم يحارون في إيجاد مضادّ له، ويقال: إنه لا يعالج بالمضادات الحيوية لأنه ليس من البكتيريا!

 

وهؤلاء الملاحدة الذي نزل الفايروس بساحتهم: أفسدوا البلاد، وقتلوا وأسروا العباد -أهل الله وخاصته- -حتى أنّ أحزان المسلمين –الإيغور- ومآسيهم تدور على العالم آناء الليل وآناء النهار ثم لا ناصر لهم ولا بواكي عليهم! وقد أمهل –الله- هؤلاء: أكلة الخفافيش والكلاب، ثم أمهلهم؛ ولكنهم لا يتوبون، ولا الى ربهم ينيبون ويرجعون؛ فأرسل الله عليهم سوط عذاب: جنديا أصغر من بعوضة النمرود؛ بل إنه لا يرى بالعين المجردة: فأهلكهم، وأدخل الرعب في قلوبهم، وحبسهم في بيوتهم، حتى أننا نعجب من هذه الملايين التي كانت تجوب شوارع الصين ليل نهار وإذا بها أحياء خاوية خالية! والعجب: أنّ عذابهم حصل في أيام فرحهم وأعيادهم فقد نكّل الله بهم كما نكّلوا بالمسلمين والجزاء من جنس العمل!

 

ومما يتعجب منه: أن مناطق المسلمين في الصين لم تتعرض لهذا الوباء! وكيف تتعرض له؟ وهو ما جاء الا لنصرتهم، والأخذ بثأرهم ممن ظلمهم وسلب أبسط حقوقهم!

 

لم يأخذ هؤلاء –أكلة الزواحف- الموعظة من قوم عاد وثمود، وقوم لوط، ولم يعتبروا من البعوضة التي شوهت وجه النمرود ثم دخلت رأسه فبقيت تتغذى على دماغه النتن أربعين سنة بقدر غطرسته وحكمه في قومه؛ فكان لا يهدأ رأسه الا أن يضربه أرحم الناس به ليهدأ لحظات! { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأنعام: 129].

 

 

ونحن لا نشمت بالضعفاء والمساكين منهم، ولكننا نعلم وهم لا يعلمون: أنّ عقوبة الله { لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} [المدثر: 28]، ولا يفرّ منها أحد، وتأخذ القوي والضعيف ولا تميز بين الراعي والرعية سنة الله إنّ{اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد} [الحج: 18].

 

وقد قصّ علينا ربنّا قصص الهالكين من الغابرين: تحذيرا. لكي لا نقع فيما وقعوا به فنهلك، خصوصا نحن المسلمون لأنّ عندنا ما ليس عندهم.. وبين الله لنا أن عذابه لا يخصّ؛ بل يعمّ فيُهلِك! قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].

 

 

 

rrr

 

الضربة القاضية!

أعني بها: صفعة الذلّ، وصفقة العار. مخجل جدا أنهم يملئون أسماعنا بأنّ القدس عاصمة الصهاينة المغتصبين! ونحن نملأ أسماعهم من صرير أقلامنا؛ ولكن ما الذي نفعله ونحن لا نملك غير المحبرة والطِّرْس!

 

ولعلّ أعظم بلاء مرّ به المسلمون في عصرنا هو انتزاع بيت المقدس من أيد طاهرة؛ لتحكم السيطرة عليه أيد نجسة بختم حمقى بني جلدتنا! ولا يخلو الشرّ من خير؛ فكم من قناع سقط، وكم من ساقط سقوطه بان،{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11]، ولكن كيف يكون خيرا ونحن نراهم يمنعون الساجدين وقد تقطعوا حسرات، وتصدعوا زفرات؛ ليرقص الراقصون وقد غلبت عليهم نشوة الطرب؟!

 

وهل يتحقق موعود الله بنصر المؤمنين وإهلاك الغاصبين الا بعد استيلائهم على البقعة الطاهرة –القدس- وإحكام سيطرتهم عليه؟، وهي الإفسادة الثانية، ولكن هل تحقق إفسادهم الأول؟ نعم. قال تعالى: { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 4، 5]، إذن هما إفسادتان لا ثالث لهما، ثم تكون ضربة لا تبقي ولا تذر: أما إفسادتهم الأولى: فقد تحققت، وعُلِم بالإجماع انكسار جبروتهم، ولكنهم رجعوا بقدر الله وتمكنوا وذلّت لهم رقاب { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا } [الإسراء: 6]، فهل تملك في عصرنا دولة من العرب والمسلمين ما يملكه هؤلاء؟ كلا، فالصولة والجولة لهم، وأبناء المسلمين فرقتهم خلافاتهم، وصدع البين شملهم، وضرب الدهر بينهم؛ حتى غدو لا يدرون الى أي شيء يلتفتون! ويأبى الله أن يرتفع شيء الا ذلّ، «إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ»([13])، وهؤلاء قد خالطت نشوة النصر لحومهم وعظامهم، ولكنها نشوة: في حين غفلة من الأمة وضعف؛ فإذا تبددت تلك الغفلة، وقوي ذلك الضعف؛ تكسرت عظامهم، وشبع الكلاب من لحومهم! وقد جاءت البشارة الربانية بهلاكهم كما في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7]، فأمر الصهاينة الى زوال حتمي، وقتلهم بأيدي المسلمين شرعي وقدري {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6]، وفي نفس السورة: آخرها، تتكرر البشارة، فتملأ قلوب المؤمنين فرحا وأملا، قال تعالى:{ وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104]، فوعد الآخرة في هذه الآية نفسه في الآية السابقة ولكن فيه زيادة معنى يزيد البشارة توضيحا وهو قوله: (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا)، سيسوق القدر اليهود الى الأرض المقدسة: زَّرافات، ووحدانا يجتمعون في مكان واحد، على قضيّة واحدة؛ حيث الأجل المحتوم الذي قُدِّر لهم، وسيرون صرعة الموت التي تذل كبرياءهم، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ƒ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ: " تُقَاتِلُونَ اليَهُودَ، حَتَّى يَخْتَبِيَ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الحَجَرِ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي، فَاقْتُلْهُ "([14]). ولم تتحقق هذه البشارة؛ ولكنها يقينا ستكون، وبشارة نبينا هذه تؤكد لنا الضربة القاضية التي تجعلهم صرعى هلكى، حضارتهم الى فناء ومدنيتهم الى زوال! نعم نجهل زمان تحقق هذه البشارة، ولكنا نعلم يقينا مكان وقوعها.

 

وأختم: بأنّ جميع الملل تنتظر مخلّصا ينزل من السماء، أو يخرج من الأرض! ونحن المسلمون أيضا ننتظر ذلك المخلّص؛ بل مخلّصين! ولكنّ أهل الكفر والضلال: يعدون لذلك اليوم ولا نعدّ له، واليوم نراهم يهيئون ذلك الهيكل ليتربع على عرشه مخلّصُهم! وأما العرب فشيّدوا ناطحات السحاب يُسَوِقون فيها العهر والرذيلة..!

 

قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] وأمّة هذا وصفها لا ينبغي لها أن تغفل عن قضيتها ثم تنتظر مخلّصا؛ بل يجب عليها أن تعمل بأسباب النصر ليأتي مخلّصهم،{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، ونصر الله ليس بكثرة عُدّة وعدد؛ بل بالإيمان مع بعض أسباب التمكين، ومتى ما استوينا مع أعداءنا في المعاصي؛ فالغلبة للأقوى! وليس من الظلم أن ينسى ربنا من نسيه، ويخذل من ترك دينه وخذله {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].

 

 

rrr

 

 

 

تأهبوا للرحيل

الموت: فضح الدنيا، وكشف سترها، وأبان عورها، وأظهر مكرها، وأكّد غرورها.. هل يعقل: أن نستعد للفانية، ونهمل الباقية؟! أين من غرته دنياه فباع آخرته من أجلها بأبخس الاثمان؟! فلم يكسب الا ترابا يحوطه، ودودا ينهش جسده!

 

أين قارون وكنوزه؟ وفرعون وجبروته؟ وهامان ووزارته؟ وأبو جهل وغطرسته؟ ذهبوا وذهبت معهم أمانيهم الباطلة.

 

أين من شيّد الجبال بيوتا، وأحكم الأهرامات حتى غدت قبلة السياح؟! ذهبوا وبقيت آثارهم لا ينتفعون بها.

 

أين من حرق إبراهيم (’)، ونشر زكريا (’) ، وقتل يحيى (’) وسمية وياسر، وعذب عمارا، وأضنى بلالا ؟ كلهم تحت الثرى، وشتّان: ما بين القاتل والمقتول، والمعذِّب والمعذَّب!

 

جعل الله لنا الحياة عبرة، والموت موعظة، فمن اتعظ فإلى خير هُدي، ومن أتبع نفسه هواها واختار الفانية على الباقية فلا يلومنّ الا نفسه.

 

عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - -، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - -، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: "أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ([15])"([16]).

قال الشاعر وصدق:

ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرئ مثله فيما مضى

هلك المداوي والمداوى والذي ... جلب الدواء وباعه ومن اشترى

 

ولو خرج أحدنا يتنشق نسيم البّر، أو يمرح في لُجَّة البحر، أو يطرب من جمال الفضاء، لأخذ كامل عُدَّته: ما طاب من الطعام والشراب، وما جمل من الثياب، وما حسن من المركب، ولو نسي شيئا ثم تذكره، تذكّره بحسرة ثم أخذ زَفْرَة! هذا كله وهي رحلة: تستغرق بضع ساعات أو أيام معدودات! إذن فلِمَ لا نستعد لرحلة البقاء والوضوح والنقاء. رحلة يصحبنا فيها الملائكة وافدين بنا على أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين حيث جنات عدن والنعيم المقيم.

 

إخوتي: تذكُّر الموت واستحضار البِلى: يطرد الأمل، ويقوي العزيمة، ويبعد الكسل، ويزيد القناعة، به: تنعم القلوب، وتسعد الأفئدة، وتنصلح الألسنة، وتستقيم الجوارح، وبه: تنجلي الهموم، وترتفع الغموم، وتهون المصائب، وتزول المتاعب.. {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

 

مر أمير المؤمنين علي (¢) بمقابر الكوفة فقال: (السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع. أما الأزواج فقد نكحت، وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خير ما عندنا فما خير ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما أنهم لو تكلموا لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى). وقال أيضا: (إنكم في أجل محدود، وأمل ممدود، ونفس معدود، ولا بد للأجل أن يتناهى وللأمل أن يطوى وللنفس أن يحصى)([17]).

 

ويستعد المرء لهاذم اللذات: بإقام الصلاة، وأداء الزكاة، وإتمام الصيام، وصلة الأرحام، وبرّ الوالدين، ودفع المظالم، والتيسير على المعسرين، وتخفيف هموم المعوزين، وترك الأنانية: ببذل النفس والجاه والمال، والعدل بين الناس، وكل عمل صالح تقدمه: يقدمك الى رضوان الله ونعيمه المقيم{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

 

 

rrr

 

الخوف من الجليل جلّ جلاله

جَلالَة الخالق في قلوب العارفين حطمت غرور الدنيا، والخشية التي تمكَّنت من قلوبهم أحالت زينة الدنيا في نظرهم خرابا، فهم يفرّون من الدنيا كما يفرّ الكافرون من الآخرة.

 

ونحن في هذا الزمان لا نرى في الناس -أعني قدواتهم- تلك المشاعر: مشاعر الخشية من الله كما نقرأها في صحف الأولين، لا أعني بهم أولئك الذين عاشوا قبل الآف السنين؛ بل أعني بهم من عاشوا قبل بضع مئات من السنين. ما الذي ينقصنا عنهم ويزيدون به علينا لعلّنا لم نعرف ربنا كما عرفوه، أو عرفوا قدر الدنيا ولم نعرفه! أو لعلهم عاشوا في دنيا غير دنيانا و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [المائدة: 54].

 

أيها المغرور: تنتظرنا أيام تشيب من هولها الولدان، ومواقف تنخلع لها القلوب، وحساب يُصَّير الأفئدة هواء. إذا كانت النفوس تفزع من صوت انفجار، أو ترتعب من ظلام النهار بسبب كسوف الشمس؛ فكيف بك وأنت ترى شمسا تكور، ونجوما تنكدر، وجبالا تسيّر، وبحارا تسجّر، وصحفا تنشر، وجحيما تسعّر..

 

 

كيف بك أيها المغرور: وأنت تنظر الى جهنم لا يُعَلم مداها -وقد ضرب على ظهرها الصراط- فيها الحيات والعقارب، وهي ترى أهلها فتزفر وتتغيظ عليهم وهم فيها يصطرخون، وبخازن جهنم يتوسلون، ويدعون على أنفسهم بالويل والثبور.

 

لماذا لا تخشى الله أيها المختال: والبشر يجمعهم صعيد واحد: ملائكة أشداء يحيطون بهم، والشمس المحرقة تدنو من رؤوسهم -قدر ميل-، والأنبياء مع أممهم جثاة على الركب من هول المطلع ينتظرون فصل القضاء، والسبيل: إما الى جنات الكرامة والنعيم، وإما الى نار الصديد والحميم.

 

خشية الله جلّ جلاله: بها يجتمع خيرُ الدنيا والآخرة، وتنعم القلوب، وتنشط الجوارح، وتنصلح النفوس، وتندحر وساوس الشيطان، وتزول لذّة الدنيا من الأفئدة، و بها يزول كرب الدنيا، ويعظم الشوق الى لقاء الله.

 

قال الحجاج لسعيد بن جبير بلغني أنك لم تضحك قط فقال: كيف أضحك وجهنم قد سعرت والأغلال قد نصبت والزبانية قد أعدت.

 

وقال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَسْكُنُ رَوْعُهُ حَتَّى يَتْرُكَ جِسْرَ جهنم وراءه"[18].

وقد راق لي كلام الغزالي رحمه الله وهو يتحدث عن خشية الله وأنا أنقل بعضه لأهميته قال: (فهذه مخاوف الأنبياء والأولياء والعلماء والصالحين ونحن أجدر بالخوف منهم لكن ليس الخوف بكثرة الذنوب بل بصفاء القلوب وكمال المعرفة وإلا فليس أمننا لقلة ذنوبنا وكثرة طاعاتنا بل قادتنا شهوتنا وغلبت علينا شقوتنا وصدتنا عَنْ مُلَاحَظَةِ أَحْوَالِنَا غَفْلَتُنَا وَقَسْوَتُنَا فَلَا قُرْبُ الرَّحِيلِ يُنَبِّهُنَا وَلَا كَثْرَةُ الذُّنُوبِ تُحَرِّكُنَا وَلَا مشاهدة أحوال الخائفين تخوفنا ولا خطر الخاتمة يزعجنا فنسأل الله تعالى أن يتدارك بفضله وجوده أحوالنا فيصلحنا إن كان تحريك اللسان بمجرد السؤال دون الاستعداد ينفعنا وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّا إِذَا أَرَدْنَا الْمَالَ فِي الدُّنْيَا زَرَعْنَا وَغَرَسْنَا وَاتَّجَرْنَا وَرَكِبْنَا الْبِحَارَ وَالْبَرَارِيَ وخاطرنا.

 

وإن أردنا طلب رتبة العلم فقهنا وتعبنا في حفظه وتكراره وسهرنا ونجتهد في طلب أرزاقنا ولا نثق بضمان الله لنا ولا نجلس في بيوتنا فنقول اللهم ارزقنا ثم إذا طمعت أَعْيُنُنَا نَحْوَ الْمُلْكِ الدَّائِمِ الْمُقِيمِ قَنَعْنَا بِأَنْ نَقُولَ بِأَلْسِنَتِنَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَالَّذِي إليه رجاؤنا وبه اعتزازنا ينادينا ويقول {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} {ولا يغرنكم بالله الغرور} يا أيها الإنسان ما عزك بربك الكريم ثُمَّ كَلُّ ذَلِكَ لَا يُنَبِّهُنَا وَلَا يُخْرِجُنَا عَنْ أَوْدِيَةِ غُرُورِنَا وَأَمَانِينَا فَمَا هَذِهِ إِلَّا مِحْنَةٌ هَائِلَةٌ إِنْ لَمْ يَتَفَضَّلِ اللَّهُ عَلَيْنَا بتوبة نصوح يتداركنا بها ويجيرنا فنسأل الله تعالى أن يتوب علينا بل نسأله أن يشوق إلى التوبة سرائر قلوبنا وأن لا يجعل حركة اللسان بسؤال التوبة غاية حظنا فنكون ممن يقول ولا يعمل ويسمع ولا يقبل.

 

 

إذا سمعنا الوعظ بكينا وإذا جاء وقت العمل بما سمعناه عصينا علامة للخذلان أعظم من هذا فنسأل الله تعالى أن يمن علينا بالتوفيق والرشد بمنه وفضله.)[19].

 

والخاتمة: عن سعيد، قال: سمعت ذا النون، يقول: " ثلاثةٌ علاماتُ الخوف: الورع عن الشبهات بملاحظة الوعيد، وحفظ اللسان مراقبة للتعظيم، ودواء الكمد إشفاقا من غضب الحليم"[20]. و(الظمآن يجزيه من الماء أيسره).

 

 

rrr

 

قُبح الحسود

 

اذا استطعت ان تجعل بينك وبين الحسود بعد المشرقين فلا تقصر! فحزنك سروره، وحياتك موته، ان أصابتك منحة كانت عليه نقمة، والنعم التي تنزل عليك، تكون عليه صواعق: تحرق قلبه وتشل أركانه.

 

يتقرب الى أعداءك، ويحب مبغضيك، مشورته لك سهام مسمومة، وعلانيته أحلى من الشهد، وباطنه أمرّ من الحنظل.

إذا طلبت منه الدواء أجابك بالداء، ذلّك عزّه، وهزيمتك نصره، لا يتورع أن يجعل دينه مطية لنيل غرضه منك.

 

إن دعوت الناس الى الهدى أدانك بالضلال، وإن هديتهم الى السنة اتهمك بالبدعة، وان أرشدتهم الى الرشد رماك بالسفه.

 

والحسد مهلكة، والحسود هالك، والمحسود ناجٍ مأجور، والحسد صفة إبليس، وخلق اليهود: بها هلكوا وفضحوا. عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): "لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا"[21].

 

 

 

rrr

 

لا تستهينوا بالرؤى

لا يختلف اثنان في أن زماننا هذا آخر الزمان، وأن الساعة قاب قوسين أو أدنى في مدة لا يعلم مداها الا الله، ولما ختم الله النبوة بمحمد (‘) جعل لهذه الأمة: ما يؤنسها ويقوي من عزمها ويبشرها وينذرها وذلك من خلال الرؤى الصادقة، والتي قد استهان بها أكثر الناس اليوم: إما لجهلهم بتأويلها أو لعدم تعظيمها وتصديقها! ورؤيا المؤمن لا تكذب خصوصا في آخر هذه الأمة؛ فعن أبي هريرة (¢) قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (‘): ((إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ، رُؤْيَا المُؤْمِنِ))([22]).

 

وقد عظم الله الرؤى الصادقة: فبها اختبر الله إيمان خليله إبراهيم (’) ثم قربه منه{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) } [الصافات: 102].

 

 وبها أنقذ الله على يد يوسف (’) أمة كادت تهلك من الجوع {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 46 - 49].

 

وبها شرع الله أعظم شعائر الإسلام وهو الأذان قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: ((لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (‘) بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيُضْرَبَ بِهِ لِلنَّاسِ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى، قَالَ: فَقَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ، قَالَ: وَتَقُولُ: إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (‘)، فَأَخْبَرْتُهُ، بِمَا رَأَيْتُ فَقَالَ: «إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ» فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ، فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ، وَيُؤَذِّنُ بِهِ، قَالَ: فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَيَقُولُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا رَأَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (‘): فَلِلَّهِ الْحَمْدُ))[23].

ومن خلالها تزوج النبي (‘) من عائشة (~)، فعَنْ عَائِشَةَ (~)، أَنَّ النَّبِيَّ (‘)، قَالَ لَهَا: (( أُرِيتُكِ فِي المَنَامِ مَرَّتَيْنِ، أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، وَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَاكْشِفْ عَنْهَا، فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ ))([24]).

 

وأول بداية النبوة كانت الرؤيا الصادقة التي كان يراها النبي (‘) في منامه فتتحقق في الواقع فعَنْ عَائِشَةَ (~)، أَنَّهَا قَالَتْ: ((أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (‘) مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ))([25]).

 

ومن خلالها بشر الله المؤمنين بالفتوح الربانية وكسر شوكة الكفار وهدم الأوثان وإقامة الدين وتخليص الناس من العبودية { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27].

 

 

وقد حصر الله لنا الايام التي تقع فيها ليلة القدر رحمة بنا وتيسرا علينا وفضلا منه وكان سبب علمنا أنها في السبع الأواخر من رمضان بسبب رؤيا الصحابة فيها فعَنِ ابْنِ عُمَرَ (ƒ): أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (‘)، أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي المَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (‘): «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ))[26].

 

والرؤيا الصادقة رحمة الله لعباده بها يؤنَس المؤمن ويعان ويُبشَر ويُنذَر وقد يخلصه الله بها من عين أو سحر يعجز الأطباء والرقاة عنه فعَنْ عَائِشةَ قَالَتْ: ((سُحِرَ النَّبِيُّ (‘)، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ، حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: " أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا فِيهِ شِفَائِي، أَتَانِي رَجُلاَنِ: فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِيمَا ذَا، قَالَ: فِي مُشُطٍ وَمُشَاطةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ " فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ (‘)، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ: «نَخْلُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» فَقُلْتُ اسْتَخْرَجْتَهُ؟ فَقَالَ: «لاَ، أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا» ثُمَّ دُفِنَتِ البِئْرُ))[27].

 

وكلما كان الرائي صادقا في حديثه كانت رؤياه صادقة ومتحققة في الواقع سواء كانت بشارة أو نذارة؛ وعليه فليحرص المسلم على صدق حديثه لتصدق رؤياه وليحرص أيضا على تعبير رؤياه على عابر صادق ومحب، ويتجنب الجاهل والمبغض.

 

 

rrr

 

قتيل فيروس كورونا شهيد

 

الى أولئك الذين قتلهم الخوف قبل أن يصل اليهم فيروس كورونا وأهلكهم الفزع من هذا الفيروس الرحال الذي جاب شرق العالم وغربه حتى دخل القصور وأدخل المتجبرين القبور، أبشروا وأملوا خيرا فأمر المؤمن كله له خير والموت بفيروس كورونا من الخير الذي يعجل للمؤمن ومن يموت بهذا الفيروس خير له من أن يموت بدونه من غير مرض، وذلك أن من جعله كالطاعون فالموت بالطاعون شهادة فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (¢)، عَنِ النَّبِيِّ (‘) قَالَ: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»([28]).

 

 ومن لم يجعله من جنس الطاعون فهو من جنس المبطون وفي كل للمؤمن شهادة وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (¢): أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (‘) قَالَ: " الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ "([29]) ومعلوم أن هذا الفيروس يصيب الرئتين وهي في جوف الانسان وهذا هو معنى البطن.

 

قال النووي (¬): (قال العلماء وإنما كانت هذه الموتات شهادة بتفضل الله تعالى بسبب شدتها وكثرة ألمها)([30]). ومعلوم أن فيروس كورونا يهاجم الجهاز التنفسي فيتألم المصاب به ألما لا يقل عن المبطون والغريق.

 

وقد كان السلف يتمنون الشهادة ولو كانت بالمرض بل يطلبونها وقد تمناها معاذ (¢) له ولأهل بيته فكان كما أراد فعَنْ أَبِي مُنِيبٍ الْأَحْدَبِ قَالَ: خَطَبَ مُعَاذٌ بِالشَّامِ، فَذَكَرَ الطَّاعُونَ فَقَالَ: " إِنَّهَا رَحْمَةُ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَقَبْضُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ. اللهُمَّ أَدْخِلْ عَلَى آلِ مُعَاذٍ نَصِيبَهُمْ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ ". ثُمَّ نَزَلَ مِنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ، فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147] ، فَقَالَ مُعَاذٌ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] "([31]) وقد مات معاذ (¢) وأهل بيته بالطاعون مات راضيا مع ما ألم به من شدة النزع ولكن هون عليه علمه بأن مثل هذا الموت شهادة! وقد بين بعض الفقهاء أن قتيل فيروس كورونا شهيد. وأسأل الله أن يرفع الوباء ويطهر البلاد ويدفع السقم عن العباد.

 

 

rrr

 

 

 

وصيّة في العلم

 

الى من يهمه التفقه في الدين هذه وصية مختصرة في سلوك سبيل التعلم فلا تبخل بالنظر فيها فهي ان لم تنفعك تنفع غيرك:

١_ أخلص النية لله؛ فالخلاص بالاخلاص.

٢_ ثبت وقتا معينا في كل يوم ولو قل وقد قيل ان الجبال من الحصى.

٣_ اسلك طريق التمذهب والزم مذهب بلدك من غير تعصب.

٤_ احفظ ولو متنا صغيرا في كل فن ان استطعت.

٥_ ان لم تستطع الحفظ الزم مختصرا معتمدا في كل فن وكرره حتى تضبطه.

٦_ احذر من الاعتماد على مطالعة الكتب دون الرجوع الى المشايخ واحرص على سماع دروسهم في كل فن.

٧_ أقرأ بتركيز وتفهم ولا تستعجل في مطالعتك فالدماغ لا يُثبت الا ما ركزت فيه.

٨_ احفظ من القران كل يوم ولو آية.

٩_ اجعل لك وردا من السنة النبوية، وانصحك بكتاب معالم السنة النبوية لصالح الشامي: فقد احتوى على جُلِّ السنة.

١٠_ قيد الفوائد في طرّة الكتاب.

١١_ اجعل في كل شهر مبلغا مخصصا لشراء الكتب التي تحتاجها، فالكتاب الذي لم تقرأه اليوم ستقرأه غدا وان لم تقرأه أنت سيقرأه غيرك فتغنم أجره.

١٢_ الزم منهجا في قراءتك لا تنصرف عنه لان ضياع العلم سببه تشتت المنهجية.

١٣_ ثبت العلم بمناقشته مع أقرانك في العلم أو بتبليغه للناس.

١٤_ العلم والتعلم دِين فانظر عمن تأخذ دينك.

١٥_ الشهرة والتصدر تقتل الوقت وتخدش الإخلاص فإن استطعت الا تتصدر فافعل.

١٦_ عين لمطالعتك وقتا معينا لا تتركه الا للضرورة.

١٧_ لو تعلمت في كل يوم مسألة أو تفسير آية أو معنى حديث فلا يبعد أن تكون فقهيا أو مفسرا خلال خمس سنوات.

 

 

 

rrr

 

النساء ناقصات عقل ودين!

 

هذه المقولة أصبحت كالمثل السائر تضرب في وجوه النساء صباح مساء من أولئك الرجال الذين هم أحق بهذا الوصف منهن -على فهمهم- ونسي هؤلاء أن من النساء: أمهاتهم؛ ولكنه الجهل، وعمى البصيرة.

 

 

هل تعلمون يا من تتفكهون بهذه العبارة على وجه السخرية والانتقاص أن هذه العبارة قالها النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة في عمره وقالها متعجبا من النساء في يوم عيد إذن لا يمكن أن تكون هذه العبارة للتنقيص بل هي للتبيين ومعناها ينصب في أمرين لا ثالث لهما في شهادة الأموال تكون شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين وهذا نقصان عقلها وفي الحيض لا تصلي ولا تصوم وهذا نقصان دينها لا تدينها أي أنها غير مكلفة حال الحيض بالصلاة والصيام هذا كل شيء يخص هذه المقولة.

 

وأما ما يخص تعجبه صلى الله عليه وسلم منهن ففي قوله: «وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب، وذوي الرأي منكن» فمع نقصان عقلها تغلب الرجل العاقل الحازم!

 

وإمساك الرجل هذه المقولة في حله وترحاله ومهجعه وإفاقته ليس من الحكمة بل هو الى السفاهة أقرب ومن الحلم أبعد.

 

وبعد: فلنا في رسول الله أسوة حسنة: لطافته مع النساء، سماحته، بشاشته طلاقته، حكمته.. وان عددت فلا تحصي خصاله، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ" خيرا.

 

                                   rrr

 

تغيير المفاهيم

 

المعركة بين أتباع الحق وأتباع الباطل أبدية ويتوفر في كل زمن دعاية لأهل الباطل على أهل الحق يشيطنون مسيرتهم ويتهمونهم بالفساد نعم لأنهم يفسدون طريقتهم الباطلة ونهجهم الفاسد فيصفونهم بالمفسدين وهؤلاء هم الفراعنة وهم موجودون في كل زمان ولا يغيبون عن أي مكان، ورافع رايتهم وأستاذ طريقتهم فرعون حيث اتهم موسى كليم الله المدلل عند ربه بالفساد والإفساد لكي ينفر الناس عن دينه ويعمي بصائرهم عن هديه:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } [غافر: 26]
وهذه ليست طريقة فرعون فقط بل هي طريقة حاشيته وكهنة الظلم والفساد والذين لا ينفك عن وجودهم زمان ولا مكان:{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } [الأعراف: 127].
وموسى لم يأتِ بما يخالف الفطرة البشرية السوية بل جاء ليخرج الناس من عبادة الملوك الى عبادة رب الملوك ورسالته من أهدى الرسالات في ذلك الوقت تنهى عن كل قبيح وتأمر بكل جميل تضع للظالمين حدا وتنصر المظلومين ولكن هذا لا يروق للفراعنة ولا يرضاه الأبالسة ولا يقبل به عبدة الفروج والمال فكان لا بد من دعاية تستنفر فيها جميع الجهود وتنفق عليها جُلّ الأموال لتضليل الناس ورمي الحق بالباطل والخير بالشر؛ ولكن الله بالمرصاد و{الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]

 

اذا لم تستطع شياطين الجن أن تضل المؤمن استعانت بشياطين الانس لإضلاله عن الهدى وايقاعه بمستنقع الفجور لذلك قدم الله تعالى عداوة شياطين الانس للانبياء على عداوة شياطين الجن لهم! {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام : 112].

 

 

 

rrr

 

 

عِراك المستحبات!

 

لقد شهد المسلمون في جميع البلاد الإسلامية النزاعات التي تحصل بينهم بسبب اختلاف الآراء في مسائل من المستحبات والتي لا يأثم تاركها فضلا عن فعلها بموافقة أحد المذاهب ومن أكثر المسائل التي حصل ويحصل فيها التنافر بين بعض المسلمين مسائل في العبادات كركعتي المغرب القبلية والصلاة قبل الجمعة وصفة النزول في الصلاة وغير ذلك من المسائل الكثيرة التي تصح الصلاة فيها على أي وجه كان بإجماع العلماء.

وقد جاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»[32] ففي هذا الحديث نهي واضح عن التنطع في الدين ومن صور التنطع التنازع المذموم بين المسلمين بسبب مستحب من المستحبات كما يصنع بعضهم أنه يبغض أخاه ويُسمعه كلاما بذيئا بسبب مخالفته لرأيه أو مخالفته لرأي شيخه وقد تناسى هذا أن الذي خالفه أيضا له إمام وقد يكون ما تبعه عليه عامة العلماء أو جمهورهم ولكن التقليد الأعمى يعمي البصيرة فيرتكب من عميت بصيرته المحرمات من أجل المستحبات وهذا جهل وعمى عافانا الله منه.

 

وأما الخلاف بين المدارس الفقهية المعاصرة من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم فحدث عن معاركهم ولا حرج اتهام بالتقصير ورمي بالزندقة ونسيان لحق الإخوة حتى أن أحدهم يصاب بمصيبة فلا يحرك لآخر ساكن لأنه من غير حزبه وعلى غير مذهبه ورأيه ولو كان كذلك لنفر إليه ونفَّر من حوله نجدة له وهذا حال غريب لم يكن في العصور المباركة وإثم هذه التصرفات تحفل به سجلات المشايخ الذين علموا الناس هذه التصرفات أو سكتوا عنها خشية ذهاب دنياهم أو مجاملة لأتباعهم وأحبابهم.

 

ولا يسعنا الا أن نرجع الى سماحة ديننا وهدي نبينا عليه الصلاة والسلام ونكون كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]

وكما قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا»[33].

وكما قال يونس الصفدي: « ما رأيت أعقل من الشافعي، فلقد ناظرني يوما في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي ثم قال : يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة ».

 

 

 

rrr

 

صلاة التراويح

 

للأسف نرى من لم ينضج في الفقه يتهم من زاد في صلاة التراويح على إحدى عشر ركعة بالابتداع ولعل صاحب هذا القول لم ينظر على الأقل في كتاب من كتب المذاهب المعتبرة ولو نظر لوجد أقوال أئمة الهدى ومصابيح الدجى قد اجمعوا على أن صلاة التراويح تزيد على أحدى عشر ركعة وهي عشرون ركعة على رأي أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأما مالك فذهب الى أنها ستة وثلاثون ركعة! فهل الفقهاء منذ مئات السنين جهلوا السنة وفطن لها أهل القرن العشرين والحادي والعشرين؟! وهؤلاء حاربوا المسلمين بكلامهم الجارح وليس هذا فحسب بل وصل بهم الحال الى التبديع والضرب في بعض الأحيان ظنا منهم أنهم ينهون عن البدع! ارتكبوا بعض المحرمات من هتك للإعراض وغير ذلك بسبب فهم فهمه الذي خرج عن فهم فقهاء الأمة.

 

قال الترمذي في سننه: (واختلف أهل العلم في قيام رمضان، فرأى بعضهم: أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، وهو قول أهل المدينة، والعمل على هذا عندهم بالمدينة، وأكثر أهل العلم على ما روي عن عمر، وعلي، وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عشرين ركعة، وهو قول الثوري، وابن المبارك، والشافعي " وقال الشافعي: «وهكذا أدركت ببلدنا بمكة يصلون عشرين ركعة» وقال أحمد: «روي في هذا ألوان ولم يقض فيه بشيء» وقال إسحاق: «بل نختار إحدى وأربعين ركعة على ما روي عن أبي بن كعب» واختار ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق: الصلاة مع الإمام في شهر رمضان " واختار الشافعي: أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئا " وفي الباب عن عائشة، والنعمان بن بشير، وابن عباس. انتهى.)[34]

وقال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد: وكان السلف الصالح، أي هم الصحابة رضي الله تعالى عنهم يقومون فيه في المساجد بعشرين ركعة، ثم يوترون بثلاث، ويفصلون بين الشفع والوتر بسلام، ثم صلوا بعد ذلك - أي في زمن عمر بن عبد العزيز - ستا وثلاثين ركعة غير الشفع والوتر، وكل ذلك واسع، ويسلم من كل ركعتين. وقالت عائشة، رضي الله عنها: ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على اثنتي عشرة ركعة بعدها الوتر اهـ.

 

وقد استدل هؤلاء بحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن،: أنه سأل عائشة رضي الله عنها، كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا»[35].

 

وهذا الحديث لا يختلف اثنان في صحته ويعرفه السلف والخلف من المجتهدين ومع ذلك فقد كانت أفعالهم وأقوالهم تقضي بأن صلاة التراويح تكون أكثر من هذا العدد الذي ورد في هذا الحديث فهل يقصدون تحريف الأحاديث وهذا اتهام لجميع المذاهب الإسلامية بالباطل أم أنهم فهموا فهما خاطئا وهذا لا يجرؤ أحد على قوله إذن ليس المقصود من هذا الحديث إلزام الأمة بعدد معين في صلاة التراويح وإنما هو فعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينهَ عن الزيادة عن هذه الركعات بل ما جاء من قوله يؤيد الزيادة فقد جاء من حديث عبد الله بن عمر، قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، ما ترى في صلاة الليل، قال: «مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلى واحدة، فأوترت له ما صلى»[36] وإنه كان يقول: اجعلوا آخر صلاتكم وترا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به.

 

ففي هذا الحديث لم يحدد النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل بعدد بل أطلقه ولو أراده لبينه وذلك أن فعله في بيته لا يطلع عليه أحد الا أهل بيته فيكون من المناسب أن يبين ذلك بقوله ولم يحدده بعدد فتبين أن الزيادة كذلك سنة.

 

والمقصود من هذه الكلمات بيان خطأ من بدع أو خطأ جميع الأئمة من السلف والخلف بسبب قول فلان أو علان من المعاصرين وهذه الطريقة مزلة أقدام يجب الابتعاد عنها.

 

 

 

rrr

 

حقد الإنسان وغلّه صفة لا تبقي ولا تذر

 

لقد امتن الله على أهل الجنة: بأن نزع من نفوسهم الغلَّ وطهرها من الحقد فقلوبهم مشربة بالمودة، وأرواحهم ممزوجة بالإخاء؛ لذلك وصفهم بالتقابل {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] تآلفت قلوبهم فتقابلت أبدانهم.

 

واليوم لا نكاد نجد أحدا من المسلمين الا وفي قلبه وَغَر على أخيه قد توجد أسبابه؛ ولكنها تختلف قوة وضعفا ومهما يكن السبب فالنتيجة للحقد كارثية خصوصا إذا كان الحاقد لا يضبطه دين ولا يردعه عرف ولا تمسك بزمامه أخلاق. أو كان الحقود غضوب فهاتان صفتان قبيحتان قد اجتمعتا فويل للناس منه وويل له من الناس!

 

فإذا كانت المودة نعمة والغل والحقد نقمة فلم التمسك بالثانية ونبذ الأولى؛ أليس الأولى العكس،ِ والله قد جعلها من أفضل نعم أهل الجنة لما فيها من كمال الطمأنينة وراحة النفس ولن تكون سعادة النفس وهناء الروح الا لصاحب القلب السليم والروح الطيبة.

 

 

 

 

rrr

 

 

 

 



([1]) المستدرك على الصحيحين للحاكم (1/ 130).

([2]) دويبة سوداء تدير الخراء بأنفها.

([3]) سنن الترمذي ت شاكر (5/ 389).

([4]) أي فخرها وتكبرها ونخوتها.

([5]) السابق.

([6]) سنن الترمذي ت بشار 4/35 ح(2165)

([7]) صحيح البخاري (2/ 128).

([8]) رواه البخاري كتاب الجنائز، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ح(1360)، وح(1361)، وفي كتاب النفقات، باب وجوب النفقة على الآهل والعيال، ح(5040)، وح(5041)، ورواه مسلم كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن اليد العليا هي المنفقة وأن اليد السفلى هي الآخذة، ح(1034)، وح(1036)، وفي باب كراهة المسألة للناس ح(1042).

([9]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 97).

([10]) سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط (5/ 281).

([11]) رواه ابن ماجه كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، ح(3029)، قال الشيخ الألباني: صحيح.

([12]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 69).

([13]) صحيح البخاري (8/ 105).

([14]) صحيح البخاري (4/ 42).

([15]) أي: العقلاء.

([16]) سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط (5/ 327).

([17]) محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء (2/ 505).

[18] إحياء علوم الدين (4/ 188).

[19] إحياء علوم الدين (4/ 188) وما بعدها.

[20] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 361).

[21] صحيح البخاري (8/ 19).

([22]) صحيح البخاري ح(7017)

[23] سنن أبي داود (1/ 135).

 

([24]) صحيح البخاري ح(3895)

([25]) صحيح البخاري ح(6982)، وصحيح مسلم ح(160)

[26] صحيح البخاري (3/ 46).

 

[27] صحيح البخاري (4/ 122).

 

([28]) صحيح البخاري (4/ 24).

([29]) صحيح البخاري (4/ 24).

([30]) شرح النووي على مسلم (13/ 63).

([31]) مسند أحمد ط الرسالة (36/ 404).

[32] صحيح البخاري (1/ 16).

[33] صحيح البخاري (8/ 19)

 

[34] سنن الترمذي ت شاكر (3/ 161)

 

[35] صحيح البخاري (2/ 53).

[36] صحيح البخاري (1/ 102).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الآجرّوميّة