الجمعة، 26 يونيو 2020

الردّ على منكري عذاب القبر





بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين أما بعد:

بين الفينة والأخرى تظهر دعوات مقيتة وأفكار عجيبة لردّ السنة النبوية من خلال إثارة الشبهات التي قد يكون لهم فيها سلف ولكنه سلف ضال كالجهمية والخوارج والمرجئة والمعتزلة وهذه المسألة التي نحن بصدد الكلام عليها أنكرتها هذه الطوائف الضالة وجعلتها لها عقيدة وظهر في هذا الزمان من يظهرها وينافح عنها ويجعل من يدافع عنها هو العاقل وصاحب رأي سديد ومن خالفها بعكس ذلك!

ولا غرابة فنحن في زمن تصدر فيه السفهاء وسلطت عليهم الأضواء ورفعت لهم المنصات وسخرت لهم الآلة الإعلامية الفاسدة لرفع شبهاتهم وقذفها في وجوه عامة الناس!

وهذه ورقات فيها أحاديث مشهورات وآيات بينات لدفع تلك الشبهات ورد تلك الخزعبلات ومن الله التوفيق.

عمر العبد الله

5 ذو القعدة 1441ه

 


 

المطلب الأول: بيان أنّ الإيمان بعذاب القبر هي عقيدة أهل السنة ومن أنكرها فهو مبتدع

الايمان بعذاب القبر ونعيمه قد جاء في الآيات البينات -كما سيأتي- وتواتر في السنة النبوية بأصح الأسانيد وتلقى أهل السنة والجماعة هذا بالإيمان وأنكر هذه العقيدة النقية: الجهمية والخوارج وبعض المعتزلة وقد ردّ أهل السنة بدعتهم وضللوهم وأجابوا عن شبهاتهم بما لا يدع للناظر فيها شك على بدعتهم وضلالهم، وسأبين كلام الأئمة في مسألة الايمان بعذاب القبر:

 

قال أبو بكر بن مجاهد: (أجمع أهل السنة أن عذاب القبر حق، وأن الناس يفتنون فى قبورهم بعد أن يحيوا فيها ويسألوا فيها، ويثبت الله من أحب تثبيته منهم. وقال أبو عثمان بن الحداد: وإنما أنكر عذاب القبر بشر المريسى والأصم وضرار)([1]).

قال المقدسي (¬): (الإيمان بعذاب القبر حق واجب، وفرض لازم. رواه عن النبي (‘) علي بن أبي طالب، وأبو أيوب، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وأبو بكرة، وأبو رافع، وعثمان بن أبي العاص، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وعائشة زوج النبي (‘)، وأختها أسماء، وغيرهم . وكذلك الإيمان بمساءلة منكر ونكير)([2]).

 وقَالَ ابو حنيفَة (¬): (من قَالَ لَا اعرف عَذَاب الْقَبْر فَهُوَ من الْجَهْمِية الهالكة لِأَنَّهُ انكر قَوْله تَعَالَى {سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ} يَعْنِي عَذَاب الْقَبْر، وَقَوله تَعَالَى {وَإِن للَّذين ظلمُوا عذَابا دون ذَلِك} يَعْنِي فِي الْقَبْر فَإِن قَالَ أُؤْمِن بِالْآيَةِ وَلَا أُؤْمِن بتأويلها وتفسيرها قَالَ هُوَ كَافِر لِأَن من الْقُرْآن مَا هُوَ تَنْزِيله تَأْوِيله فَإِن جحد بهَا فقد كفر)([3]).

 

وقال أيضا: (وسؤال مُنكر وَنَكِير حق كَائِن فِي الْقَبْر وإعادة الرّوح إِلَى الْجَسَد فِي قَبره حق وضغطة الْقَبْر وعذابه حق كَائِن للْكفَّار كلهم ولبعض عصاة الْمُؤمنِينَ حق جَائِز)([4]).

 

قال الشَّافِعِي (¬): (وإن عذاب القبر حق، ومساءلة أهل القبور حق، والبعث حق، والحساب حق، والجنة والنار، وغير ذلك مما جاءت به السنن، فظهرت على ألسنة العلماء وأتباعهم من بلاد المسلمين حق)([5]).

 

قال ابن هانئ: قال وعذاب القبر ومنكر ونكير؟

قال أبو عبد اللَّه: نؤمن بهذا كله، ومن أنكر واحدة من هذِه، فهو جهمي)([6]).

 

قال المروزي (¬): (قال الإمام أحمد (¬): عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل)([7]).

 

وقال أبو الحسن الأشعري (¬): (وأنكرت المعتزلة عذاب القبر أعاذنا منه. وقد روي عن النبي (‘) من وجوه كثيرة، وروي عن أصحابه أجمعين، وما روي عن أحد منهم أنه أنكره ونفاه وجحده، فوجب أن يكون إجماعا من أصحاب النبي (‘))([8]).

 

وقال أبو بكر الجرجاني (¬): (ويقولون إن عذاب القبر حق، يعذب الله من استحقه إن شاء، وإن شاء عفى عنه)([9]).

 

وقال ابن أبي زمنين (¬): (وأهل السنة يؤمنون بعذاب القبر أعاذنا الله وإياك من ذلك)([10]).

 

قال ابن حزم (¬): (ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر وهو قول من لقينا من الخوارج، وذهب أهل السنة وبشر بن المعتمر والجبائي وسائر المعتزلة إلى القول به وبه نقول لصحة الآثار عن رسول الله (‘) به)([11]).

وقال الغزالي (¬): (وأما عذاب القبر فقد دلت عليه قواطع الشرع إذ تواتر عن النبي (‘) وعن الصحابة بالاستعاذة منه في الأدعية واشتهر قوله عند المرور بقبرين: إنهما ليعذبان ودل عليه قوله تعالى " وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً " الآية، وهو ممكن، فيجب التصديق به. ووجه إمكانه ظاهر)([12]).

 

وقال ابن ابي العز (¬): (وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث، وله شواهد من الصحيح.

وقد تواترت الأخبار عن رسول الله (‘) في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا تتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذا الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول. فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا

واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، [قبر أو لم يقبر]، أكلته السباع أو احترق حتى صار رمادا ونسف في الهواء، أو صلب أو غرق في البحر, وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور, وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه ونحو ذلك, فيجب أن يفهم عن الرسول (‘) مراده من [غير] غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان، فكم حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله, بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد, والله المستعان)([13]).

 

عن عثمَان بْن سعيد الرازي قَالَ: (حَدَّثَنَا الثقة من أصحابنا قَالَ: لمَا مَات بشر المريسي لم يشهد جنازته من أهل العلم السنة أحد إلا عبيد الشونيزي، فلمَا رجع من جنازة المريسي لاموه، فَقَالَ: أنظروني حَتَّى أخبركم: مَا شهدت جنازة رجوت فيها من الأجر مَا رجوت فِي هَذِهِ، قمت فِي الصف، فقلت: اللَّهمّ إن عبدك هَذَا كَانَ لا يؤمن برؤيتك فِي الآخرة، اللَّهمّ فاحجبه عن النظر إِلَى وجهك يوم ينظر إليك المؤمنون، اللَّهمّ عبدك هَذَا كَانَ لا يؤمن بعذاب القبر، اللَّهمّ فعذبه اليوم فِي قبره عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين!)([14]).

 

وعن مُحَمَّد بْن الحجاج بْن هارون المقري القزويني قَالَ: سمعت أبا بكر الأسدي ينشد قصيدة التي يهجو فيها الجهمية ويرد فيها على إنكارهم عذاب القبر بقوله:

 

سليمان والمنهال قالا وحدثا ... وزاذان يروي والبراء المخبر

عن الصادق المصدوق إذ في جنازة ... يحدث في الأنصار والقبر يحفر

فمن شك فيه للشقاء فإنه ... سيعرفه في قبره حين يقبر)([15]).

 

وفي البناية: (وعذاب القبر ثابت عند أهل السنة وإن اختلفوا في كيفيته.

فقال بعضهم: يؤمن بأهل العذاب ويسكت عن الكيفية، لأن الواجب علينا تصديق ما جاء في السنة المشهورة، وهو التعذيب بعد الموت. وعند العامة يوضع فيه الحياة، لأن الإيلام لا يكون بلا حياة ولا علم. ثم اختلفوا فقيل يوضع فيه الحياة بقدر ما يتألم لا الحياة المطلقة. وقيل يوضع فيه الحياة من كل وجه)([16]).

 

وفي البحر: (وإن كان ما ذهب إليه عند التحقيق في حد ذاته كفرا كمنكر الرؤية وعذاب القبر ونحو ذلك مما علم في الكلام)([17]).

 

وفي الفواكه الدواني: (قال العلماء: عذاب القبر وهو عذاب البرزخ أضيف إلى القبر؛ لأنه الغالب إلى أن قال: ومحله الروح والبدن جميعا باتفاق أهل السنة، وكذا القول في النعيم، ويمكن الجواب عن المصنف بأنه إنما أسند النعيم والعذاب للأرواح لما تقرر من أنها متصلة بالأجساد، فيلزم من تعذيب أو تنعيم الأرواح تنعيم أو تعذيب الأجساد، فلم يخرج المصنف عن كلام أهل السنة)([18]).

 

وقال ابن تيمية (¬): (بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما يكون للروح منفردة عن البدن. وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران)([19]).

فائدة:

قال ابن القيم (¬): (الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة وَهِي قَوْله عَذَاب الْقَبْر دَائِم أم مُنْقَطع جوابها أَنه نَوْعَانِ نوع دَائِم سوى مَا ورد فِي بعض الْأَحَادِيث أَنه يُخَفف عَنْهُم مَا بَين النفختين فَإِذا قَامُوا من قُبُورهم قَالُوا {يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا} وَيدل على دَوَامه قَوْله تَعَالَى {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا} ..

النَّوْع الثَّانِي إِلَى مُدَّة ثمَّ يَنْقَطِع وَهُوَ عَذَاب بعض العصاة الَّذين خفت جرائمهم فيعذب بِحَسب جرمه ثمَّ يُخَفف عَنهُ كَمَا يعذب فِي النَّار مُدَّة ثمَّ يَزُول عَنهُ الْعَذَاب وَقد يَنْقَطِع عَنهُ الْعَذَاب بِدُعَاء أَو صَدَقَة أَو اسْتِغْفَار أَو ثَوَاب حج أَو قِرَاءَة تصل إِلَيْهِ من بعض أَقَاربه أَو غَيرهم)([20]).

فائدة في بيان أي الرأي يُذَم:

(قال بن عبد البر في بيان العلم بعد أن ساق آثارا كثيرة في ذم الرأي ما ملخصه اختلف العلماء في الرأي المقصود إليه بالذم في هذه الآثار مرفوعها وموقوفها ومقطوعها فقالت طائفة هو القول في الاعتقاد بمخالفة السنن لأنهم استعملوا آراءهم وأقيستهم في رد الأحاديث حتى طعنوا في المشهور منها الذي بلغ التواتر كأحاديث الشفاعة وأنكروا أن يخرج أحد من النار بعد أن يدخلها وأنكروا الحوض والميزان وعذاب القبر إلى غير ذلك من كلامهم في الصفات والعلم والنظر وقال أكثر أهل العلم الرأي المذموم الذي لا يجوز النظر فيه ولا الاشتغال به هو ما كان في نحو ذلك من ضروب البدع ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال لا تكاد ترى أحدا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل قال وقال جمهور أهل العلم الرأي المذموم في الآثار المذكورة هو القول في الأحكام بالاستحسان والتشاغل بالأغلوطات ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصول السنن وأضاف كثير منهم إلى ذلك من يتشاغل بالإكثار منها قبل وقوعها لما يلزم من الاستغراق في ذلك من تعطيل السنن وقوى بن عبد البر هذا القول الثاني واحتج له ثم قال ليس أحد من علماء الأمة يثبت عنده حديث عن رسول الله (‘) بشيء ثم يرده إلا بادعاء نسخ أو معارضة أثر غيره أو إجماع أو عمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده ولو فعل ذلك بغير ذلك لسقطت عدالته فضلا عن أن يتخذ إماما وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك ثم ختم الباب بما بلغه عن سهل بن عبد الله التستري الزاهد المشهور قال ما أحدث أحد في العلم شيئا إلا سئل عنه يوم القيامة فإن وافق السنة سلم والا فلا)([21]).

 

 

+++

 

 

المطلب الثاني: الدلالة على وجود عذاب القبر من الآيات البيّنات

 

1-قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101].

قال ابن إسحاق (¬): قوله (سنعذبهم مرتين)، قال: العذاب الذي وعدهم مرتين، فيما بلغني، غمهم بما هم فيه من أمر الإسلام، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة، ثم عذابهم في القبر إذا صاروا إليه، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه، عذاب الآخرة، والخلد فيه. وذهب الى هذا التفسير: أبو مالك وقتادة والحسن وابن جريج([22]).

 

وقَالَ ابو حنيفَة (¬): (من قَالَ لَا اعرف عَذَاب الْقَبْر فَهُوَ من الْجَهْمِية الهالكة لِأَنَّهُ انكر قَوْله تَعَالَى {سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ} يَعْنِي عَذَاب الْقَبْر)([23]).

 

وقال أبو جعفر (¬): (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر أنه يعذب هؤلاء الذين مردوا على النفاق مرتين، ولم يضع لنا دليلا يوصل به إلى علم صفة ذينك العذابين = وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم. وليس عندنا علم بأي ذلك من أي. غير أن في قوله جل ثناؤه: (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، دلالة على أن العذاب في المرتين كلتيهما قبل دخولهم النار. والأغلب من إحدى المرتين أنها في القبر)([24]).

 

وقال الرازي (¬): (والأولى أن يقال مراتب الحياة ثلاثة: حياة الدنيا، وحياة القبر، وحياة القيامة، فقوله: سنعذبهم مرتين المراد منه عذاب الدنيا بجميع أقسامه، وعذاب القبر)([25]).

 

وجاء في تفسير الماتريدي: (وذكر عن ابن مسعود -¢ - أنها جعلت أرواحهم في أجواف طير سود، فهي تعرض على النار كل يوم مرتين (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) إلى أن تقوم الساعة. فهو تفسير لما ذكر من الغدو والعشي، ثم إن ثبت هذا عنه فهو سماع عن رسول اللَّه - -؛ لأنه باب لا يدرك بالتدبير مع ما روي عن ابن عمر -ƒ - قال: إن نبي اللَّه - - قال: " إذا مات أحدكم عرض على مقعده بالغداة والعشي: إن كان من أهل الجنة فمن الجنة، وإن كان من أهل النار فمن النار، يقال له: ها ذاك مقعدك حتى يبعث إليه يوم القيامة " فإن ثبت هذا وصح عنه، فهو دليل لوجوب عذاب القبر، واللَّه أعلم)([26]).

 

 

2-وقال تعالى: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [إبراهيم: 27].

 

فعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ (ƒ)، عَنِ النَّبِيِّ (‘) قَالَ: " إِذَا أُقْعِدَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ، ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا - وَزَادَ - {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27] نَزَلَتْ فِي عَذَابِ القَبْرِ.)([27]).

وعَنِ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] قَالَ: «نَزَلَتْ فِي صَاحِبِ الْقَبْرِ»([28])

 

 

3-وقال تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46].

قال القرطبي (¬): (والجمهور على أن هذا العرض في البرزخ. احتج بعض أهل العلم في تثبيت عذاب القبر بقوله:" النار يعرضون عليها غدوا وعشيا" ما دامت الدنيا. كذلك قال مجاهد وعكرمة ومقاتل ومحمد بن كعب كلهم قال: هذه الآية تدل على عذاب القبر في الدنيا، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة:" ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب")([29]).

قال القاضى أبو بكر بن الطيب وغيره: قد ورد القرآن بتصديق الأخبار الواردة فى عذاب القبر، قال تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) [غافر: 46] وقد اتفق المسلمون أنه لا غدوة ولا عشى فى الآخرة، وإنما هما فى الدنيا، فهم يعرضون مماتهم على النار قبل يوم القيامة، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب)([30]).

 

4-وقال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25].

قال الرازي (¬): (تمسك أصحابنا في إثبات عذاب القبر بقوله: أغرقوا فأدخلوا نارا وذلك من وجهين الأول: أن الفاء في قوله: فأدخلوا نارا تدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق فلا يمكن حملها على عذاب الآخرة، وإلا بطلت دلالة هذه الفاء .

الثاني: أنه قال: فأدخلوا على سبيل الإخبار عن الماضي)([31]).

 

وقال أيضا: (احتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات عذاب القبر قالوا الآية تقتضي عرض النار عليهم غدوا وعشيا، وليس المراد منه يوم القيامة لأنه قال: ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وليس المراد منه أيضا الدنيا لأن عرض النار عليهم غدوا وعشيا ما كان حاصلا في الدنيا، فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت وقبل يوم القيامة، وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء، وإذ ثبت في حقهم ثبت في حق غيرهم لأنه لا قائل بالفرق)([32]).

 

5-وقال تعالى:{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 47]

عن قتادة، أن ابن عباس كان يقول: إن عذاب القبر في القرآن. ثم تلا (وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك) . وهو قول البراء بن عازب وعلي .

وقال الطبري (¬): (والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن للذين ظلموا أنفسهم بكفرهم به عذابا دون يومهم الذي فيه يصعقون، وذلك يوم القيامة، فعذاب القبر دون يوم القيامة، لأنه في البرزخ)([33]).

 

6-وقال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50]

 

قال أبو جعفر (¬): (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (‘): ولو ترى، يا محمد، حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين العادلين بربهم الآلهة والأنداد، والقائلين:"ما أنزل الله على بشر من شيء"، والمفترين على الله كذبا، الزاعمين أن الله أوحى إليه ولم يوح إليه شيء، والقائلين:"سأنزل مثل ما أنزل الله"، فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت، ونزل بهم أمر الله، وحان فناء آجالهم، والملائكة باسطو أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم)([34]).

وقال ابن عباس (¢): (لا يتوفى أحد على معصية إلا بضرب شديد لوجهه وقفاه)([35]).

 

7-وقال تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 15].

قال محمد بن جرير الطبري: وسلام عليه أي أمان من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم: ويوم يموت أي وأمان عليه من عذاب القبر،

ويوم يبعث حيا أي ومن عذاب القيامة)([36]).

 

 

8-وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [طه: 124].

ومعيشة الضنك هي عذاب القبر قاله أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو صالح والسدي وعبد الله.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هو عذاب القبر الذي .. عن أبي هريرة، عن رسول الله (‘) أنه قال: " أتدرون فيم أنزلت هذه الآية (فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) أتدرون ما المعيشة الضنك؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره،).. وإن الله (تبارك وتعالى) اتبع ذلك بقوله: (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) فكان معلوما بذلك أن المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم قبل عذاب الآخرة، لأن ذلك لو كان في الآخرة لم يكن لقوله: (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) معنى مفهوم، لأن ذلك إن لم يكن تقدمه عذاب لهم قبل الآخرة، حتى يكون الذي في الآخرة أشد منه، بطل معنى قوله (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) ، فإذ كان ذلك كذلك، فلا تخلو تلك المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم من أن تكون لهم في حياتهم الدنيا، أو في قبورهم قبل البعث، إذ كان لا وجه لأن تكون في الآخرة لما قد بينا، فإن كانت لهم في حياتهم الدنيا، فقد يجب أن يكون كل من أعرض عن ذكر الله من الكفار، فإن معيشته فيها ضنك، وفي وجودنا كثيرا منهم أوسع معيشة من كثير من المقبلين على ذكر الله (تبارك وتعالى)، القائلين له المؤمنين في ذلك، ما يدل على أن ذلك ليس كذلك، وإذ خلا القول في ذلك من هذين الوجهين صح الوجه الثالث، وهو أن ذلك في البرزخ "([37]).

 

قال القرطبي (¬): (الصحيح –في الآية- أنه عذاب القبر)([38]).

وقال ابن حجر (¬): (وصحح بن حبان من حديث أبي هريرة مرفوعا في قوله معيشة ضنكا قال عذاب القبر أورده من وجهين مطولا ومختصرا وأخرجه سعيد بن منصور والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري موقوفا ومرفوعا والطبراني من حديث بن مسعود ورجح الطبري هذا مستندا إلى قوله في آخر الآيات ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)([39]).

 

9-وقال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1، 2].

قال الطبري (¬): (وقوله: (حتى زرتم المقابر) يعني: حتى صرتم إلى المقابر فدفنتم فيها؛ وفي هذا دليل على صحة القول بعذاب القبر، لأن الله تعالى ذكره، أخبر عن هؤلاء القوم الذين ألهاهم التكاثر، أنهم سيعلمون ما يلقون إذا هم زاروا القبور وعيدا منه لهم وتهددا. عن علي، قال: كنا نشك في عذاب القبر، حتى نزلت هذه الآية: (ألهاكم التكاثر) ... إلى: (كلا سوف تعلمون) في عذاب القبر.)([40]).

 

10-              وقال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]. عن مجاهد: قال: الأدنى في القبور وعذاب الدنيا)([41]).

11-              وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

قال القرطبي (¬): (وإذا كان الله تعالى يحييهم بعد الموت ليرزقهم- على ما يأتي- فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم، ويكون فيه دليل على عذاب القبر)([42]).

 

 

 

 

 

 

 

 

+++

 

 

 

 

 

 

 

 

المطلب الثالث: السنة النبوية تؤكد بأنّ عذاب القبر حق

قال ابن بطال (¬): (.. والأخبار فى عذاب القبر صحيحة متواترة لا يصح عليها التواطؤ، وإن لم يصح مثلها لم يصح شيء من أمر الدين)([43]).

 

وقال ابن الجوزي (¬): (واعلم أن الإيمان بعذاب القبر واجب للأحاديث الواردة فيه)([44]).

 

وقال النووي (¬): (اعلم أن مذهب أهل السنة إثبات عذاب القبر وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة)([45]).

 

وقال ابن دقيق العيد (¬): (تصريحه بإثبات عذاب القبر على ما هو مذهب أهل السنة واشتهرت به الأخبار)([46]).

 

1-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَهُوَ يَقُولُ: «إِنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِكُمْ يُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالرَّحْمَنِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالدَّجَّالِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالْحَوْضِ، وَيُكَذِّبُونَ بِقَوْمٍ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ»([47]). وهذا من الغيب المستقبلي ولا يقال بالرأي فله حكم الرفع.

 

2-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (ƒ)، مَرَّ النَّبِيُّ (‘) عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ» ثُمَّ قَالَ: «بَلَى أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا، فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا»([48])

قال ابن بطال والنووي وابن دقيق العيد وغيرهم: (فيه إثبات عذاب القبر وفتنته وهو مذهب أهل الحق خلافا للمعتزلة)([49]).

 

3-عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (¢)، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (‘) قَالَ: " إِنَّ العَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ، فَيَقُولاَنِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ (‘)، فَأَمَّا المُؤْمِنُ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا - قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا: أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ - قَالَ: وَأَمَّا المُنَافِقُ وَالكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ "([50]).

 

قال الطيبي (¬) –في شرحه لهذا الحديث-: (اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة إثبات عذاب القبر، وقد تظاهرت عليه الدلائل من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًا وعَشِيًا} الآية، وأما الأحاديث فلا تحصى كثرة، ولا مانع في العقل أن يخلق الله تعالى الحيوة في جزء من الجسد أو في جميعه - على الخلاف بين الأصحاب - فيثيبه ويعذبه، وإذا لم يمنعه العقل وورد الشرع به وجب قبوله واعتقاده. ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت أجزاؤه، كما يشاهد في العادة، أو أكلته السباع والطيور وحيتان البحر، كما أن الله تعالى يعيده للمحشر، وهو سبحانه قادر على ذلك)([51]).

 

قال في عمدة القاري: (فيه إثبات عذاب القبر مع غيره من الأدلة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وإحياء الميت. قال الإمام أبو المعالي: تواترت الأخبار بذلك، وباستعاذة النبي (‘) من عذاب القبر)([52]).

 

4-عَنْ عَائِشَةَ (~): أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ القَبْرِ، فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ (‘) عَنْ عَذَابِ القَبْرِ، فَقَالَ: «نَعَمْ، عَذَابُ القَبْرِ» قَالَتْ عَائِشَةُ (~): فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (‘) بَعْدُ صَلَّى صَلاَةً إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ زَادَ غُنْدَرٌ: «عَذَابُ القَبْرِ حَقٌّ»([53]).

قال أبو عمر (¬): (في هذا الحديث دليل على أن عذاب القبر تعرفه اليهود وذلك والله أعلم في التوراة لأن مثل هذا لا يدرك بالرأي)([54]).

قلت: للأسف اليهود يعرفونه ويؤمنون به وبعض المسلمين ينكرونه!

 

5-عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ (‘)، أَخْبَرَتْهُ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (‘) كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا، وَفِتْنَةِ المَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ " فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ، فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ»([55]).

 

 

قال ابن بطال (¬): (هذه الآثار تشهد للآثار التى فى الباب قبل هذا، أن عذاب القبر حق على ما ذهب إليه أهل السنة، ألا ترى الرسول استعاذ بالله منه، وقد عصمه الله وطهره، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فينبغى لكل من علم أنه غير معصوم ولا مطهر أن يكثر التعوذ مما استعاذ منه نبيه، ففى أكرم الأكرمين أسوة)([56]).

 

6-عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ (‘)، قَالَ: «لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»([57]).

 

7-عَنْ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (‘): " لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ ([58])": هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ

 

 

 

8-عَنْ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ (‘) كَانَ: «يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ»([59]) قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي الرَّجُلَ يَمُوتُ عَلَى فِتْنَةٍ، لَا يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا.

 

9-عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " مَا زِلْنَا نَشُكُّ فِي عَذَابِ القَبْرِ حَتَّى نَزَلَتْ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ "([60]) قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ، مَرَّةً عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ المِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو،: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ».

 

10-              وعن عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ (‘) عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللهُمَّ، اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ - أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ -» قَالَ: «حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ»([61]).

 

(وَرَوَى فِي عَذَابِ الْقَبْرِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَعَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وأَنَسٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وابْنُ عَبَّاسٍ، وعَائِشَةُ، وأَسْمَاءُ، وأُمُّ خَالِدٍ، وَأَبُو رَافِعٍ، وجَابِرٌ. كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنِ النَّبِيِّ (‘). قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَصَحَّتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (‘) فِي اسْتِعَاذَتِهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَتَعَوُّذِهِ مِنْهُ، وَثَبَتَ عَنْهُ (‘) أَنَّ أُمَّتَهُ سَتُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، وَهِيَ أَخْبَارٌ ثَابِتَةٌ تُوجِبُ الْعِلْمَ وَتَنْفِي الرِّيَبَ وَالشَّكَّ. وَاللَّهَ نَسْأَلُ أَنْ يُعِيذَنَا مِنْ عَذَابٍ فِي قُبُورِنَا، وَأَنْ يَجْعَلَهَا عَلَيْنَا رِيَاضًا خَضْرَاءَ تُنَوَّرُ لَنَا فِيهَا "([62]).

 

 

 

 

 

+++

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المطلب الرابع: ردّ الشبهات

توجد بعض الشبه حول مسألة وجود عذاب القبر أثيرت قديما وحديثا ولكن بحول الله وقته ردها كبار العلماء وهي شبه واهية لا تستطيع النهوض أمام ما تواتر من الأحاديث النبوية التي قطعت بوجود عذاب القبر حتى لا نجد أي أحد من الصحابة نفاه، ومن هذه الشبهات:

·       يقولون إنا نرى شخص الميت مشاهدة وهو غير معذب وإن الميت ربما تفترسه السباع وتأكله!

·       وجوابها: (وهذا هوس؛ أما مشاهدة الشخص فهو مشاهدة لظواهر الجسم والمدرك للعقاب جزء من القلب أو من الباطن كيف كان وليس من ضرورة العذاب ظهور حركة في ظاهر البدن، بل الناظر إلى ظاهر النائم لا يشاهد ما يدركه النائم من اللذة عند الاحتلام ومن الألم عند تخيل الضرب وغيره، ولو انتبه النائم وأخبر عن مشاهداته وآلامه ولذاته من لم يجر له عهد بالنوم لبادر إلى الانكار اغتراراً بسكون ظاهر جسمه، كمشاهدة إنكار المعتزلة لعذاب القبر)([63]).

·       احتجوا بقوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان: 56].

·       وجوابها: (قال تعالى: (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) [غافر: 46] ، فإذا جاز أن يكون المكلف بعد موته معروضا على النار غدوا وعشيا، جاز أن يسمع الكلام ويمنع الجواب، لأن اللذة والعذاب تجىء بالإحساس، فإذا كان كذلك وجب اعتقاد رد الحياة فى تلك الأجساد، وسماعهم للكلام، والعقل لا يدفع هذا)([64]).

·       قالوا في قوله تعالى:{قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52]، دلالة على عدم وجود عذاب في القبر لأنهم كانوا كالراقدين ولو وجد عذاب لما جاء بلفظ الرقود!

·       وجوابها: أنهم يعذبون في القبور لكنهم إذا عاينوا عذاب الآخرة وشاهدوا أهوالها، هان ذلك العذاب الذي كان لهم في القبر وسهل عند عذاب الآخرة؛ فصار ذلك كالرقاد لهم عند عذاب الآخرة فقالوا عند ذلك: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)، واللَّه أعلم بذلك([65]).

 

 

 

 

 

+++

 

 

 

الخاتمة:

·       كل من خالف إجماع الأمة وظواهر الأدلة المتواترة فشبهته أهون من بيت العنكبوت ويقينا هو على ضلال مبين.

·       إثبات عذاب القبر ونعيمه من عقيدة أهل السنة والجماعة وكل من خالفها فهو على ضلالة.

·       يجب الحذر من أصحاب هذه الدعوات الذين انتشروا بشكل غريب في زمن الشبكات العنكبوتية وعدم السماع لهم.

·       كلما تقدمت بنا الأيام كلما زادت الدعوات لنبذ السنة النبوية وأخذ ما جاءت به العقول الواهية!

·       يجب على كل مسلم أن يأخذ بوصية الله وينتهي حيث نهاه { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63].

 

 

 

 

 



([1]) شرح صحيح البخارى لابن بطال (3/ 358). وهؤلاء من المعتزلة.

([2]) الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي (ص: 172).

([3]) الفقه الأبسط (ص: 137).

([4]) الفقه الأكبر (ص: 65).

([5]) تفسير الإمام الشافعي (3/ 1417).

([6]) الجامع لعلوم الإمام أحمد - العقيدة (4/ 244)، "مسائل ابن هانئ" (1879).

([7]) تسلية أهل المصائب (ص: 223).

([8]) الإبانة عن أصول الديانة (ص: 247).

([9]) اعتقاد أئمة الحديث (ص: 69).

([10]) أصول السنة لابن أبي زمنين (ص: 154).

([11]) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 55).

([12]) الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 117).

([13]) شرح الطحاوية - ط دار السلام (ص: 396).

([14]) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (11/ 34).

([15]) التدوين في أخبار قزوين (1/ 65).

([16]) البناية شرح الهداية (6/ 242).

([17]) البحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/ 371).

([18]) الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/ 96).

([19]) مجموع الفتاوى (4/ 282).

([20]) الروح (ص: 89).

([21]) فتح الباري لابن حجر (13/ 289).

([22]) ينظر تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (14/ 442).

([23]) الفقه الأبسط (ص: 137).

([24]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (14/ 445).

([25]) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (16/ 131).

([26]) تفسير الماتريدي = تأويلات أهل السنة (9/ 34).

([27]) صحيح البخاري (2/ 98).

([28]) السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 601).

([29]) تفسير القرطبي (15/ 318).

([30]) شرح صحيح البخارى لابن بطال (3/ 358).

([31]) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (30/ 659).

([32]) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (27/ 521).

([33]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (22/ 488).

([34]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (11/ 537).

([35]) تفسير القرطبي (16/ 250).

([36]) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (21/ 518).

([37]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (18/ 394).

([38]) تفسير القرطبي (11/ 259).

([39]) فتح الباري لابن حجر (8/ 433).

([40]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (24/ 580).

([41]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (20/ 191).

([42]) تفسير القرطبي (2/ 173).

([43]) شرح صحيح البخارى لابن بطال (3/ 363).

([44]) كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 84).

([45]) شرح النووي على مسلم (17/ 200).

([46]) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 105).

([47]) 1-         مصنف عبد الرزاق الصنعاني (3/ 588).

([48]) صحيح البخاري (2/ 99). قال ابن حجر ¬: (وقد جاء في عذاب القبر غير هذه الأحاديث منها عن أبي هريرة وبن عباس وأبي أيوب وسعد وزيد بن أرقم وأم خالد في الصحيحين أو أحدهما وعن جابر عند بن ماجة وأبي سعيد عند بن مردويه وعمر وعبد الرحمن بن حسنة وعبد الله بن عمرو عند أبي داود وبن مسعود عند الطحاوي وأبي بكرة وأسماء بنت يزيد عند النسائي وأم مبشر عند بن أبي شيبة وعن غيرهم وفي أحاديث الباب من الفوائد إثبات عذاب القبر وأنه واقع على الكفار ومن شاء الله من الموحدين). فتح الباري لابن حجر (3/ 240).

([49]) ينظر: شرح النووي على مسلم (5/ 85) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 105) معالم السنن (1/ 19).

([50]) صحيح البخاري (2/ 98).

([51]) شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (2/ 589).

([52]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (2/ 98).

([53]) صحيح البخاري (2/ 98).

([54]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (23/ 391).

([55]) صحيح البخاري (1/ 166).

([56]) شرح صحيح البخارى لابن بطال (3/ 364).

([57]) صحيح مسلم (4/ 2200).

([58]) سنن الترمذي ت شاكر (4/ 187).

([59]) سنن ابن ماجه (2/ 1263).

([60]) سنن الترمذي ت شاكر (5/ 447).

([61]) صحيح مسلم (2/ 662).

([62]) السنة لابن أبي عاصم (2/ 425).

([63]) الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 117).

 

([64]) شرح صحيح البخارى لابن بطال (3/ 358).

([65]) ينظر: تفسير الماتريدي (8/ 528).


الآجرّوميّة