الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد ولد آدم النبي المصطفى الكريم وعلى آله
وأزواجه وأصحابه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين أما بعد:
قال الشوكاني (¬): (واعلم أن هذه الثلاثة الأبحاث المذكورة في هذا الباب
هي من المعارك التي تتبلد عندها الأذهان وقد اضطربت فيها المذاهب اضطراباً شديداً
وتباينت فيها الأنظار تباينا زائدا انتهى.)([1]). وكل من دخل في مضمار هذه المسألة تيقن ما قاله
الشوكاني (¬) فأنظار الفقهاء مختلفة والأدلة محتملة وآثار السلف
متباينة والأقوال كثيرة والآراء متشعبة ولا يخرج من هذه المسألة أحد بفهم صحيح الا
بتوفيق من الله!
وقد بذلت في
كتابة هذه الحروف ساعات غير قليلة: جامعا ومنقحا، باحثا عن أقرب الأقوال الى مقصد
الشريعة، لعلي أجد ضالتي فأهتدي..
ولعلّي أنبه
الى أمر هو أهم من مسألتنا هذه: وهو فهم أن هذه المسألة مما يسوغ فيها الاجتهاد
ويجوز تباين الأنظار فيها ولا ينكر فيها على المخالفين، فالالتزام بها ثم نبذ
الأصل المجمع عليه: وهو الحفاظ على أخوة الدين لمن السفه باتفاق العالِمين! فليأخذ
كل واحد منا برأي هو يراه أقرب الى الدليل ولا ينبز الآخرين أو يضللهم أو يسفههم
لأنه ترك رأي شيخه أو مذهبه فالمسألة كما ترى قد حار فيها أئمة الدين ولا حول ولا
قوة الا بالله العلي العظيم.
وأما منهجي في
بحثي هذا: التجرد وهو أساس كل نجاح فأنا دخلت في بحثي هذا شافعيا وخرجت منه حنفيا!
ولا أدري لماذا مِلْتُ الى رأيهم هل لقوة أدلتهم أم لمتانة ردهم أم لكليهما؟!
وقد اعتمدت في
جميع ما نقلت على أقوال المذاهب من مصادرها الأصلية المعتمدة عند كل مذهب ولا
أعتمد في نقل مذهب على كلام عالم من غير المذهب نفسه.
وغايتي من هذا
البحث: التوصل الى قول يطمئن اليه قلبي، ثم نفع أخواني ممن يطالع ما يكتبه العبد
الفقير. وكذلك هذا البحث حجر الأساس لبحوث تأتي تباعا إن قدر الله لنا زيادة في
العمر مما يخص القصر لأهل مكة في المشاعر المقدسة.
والله أسأل
التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه: عمر
العبد الله
15 ربيع الآخر
1441ه
الموافق:
12/12/2019م
أقوال
المذاهب في المدة التي تقصر فيها الصلاة وأشهرها ثلاثة([2]):
القول
الأول: قال الحنفية([3]) وسفيان
الثوري([4]) (†): لا بد
من صريح نية الإقامة خمسة عشر يوما في مكان واحد([5]) صالح
للإقامة([6]) هذه
الأربعة اذا اختل شرط منها فإنه يقصر الصلاة.
قال في
الهداية: (ولا يزال على حكم السفر حتى ينوي الإقامة في بلدة أو قرية خمسة عشر يوما
أو أكثر وإن نوى أقل من ذلك قصر)([7]).
تعليلهم: قالوا: السفر لا يخلو عن اللبث
القليل، فاعتبرنا الخمسة عشر كثيرا فاصلا اعتبارا بمدة الطهر، إذ لها أثر في إيجاب
الصلاة وإسقاطها. فإن مدة الطهر توجب إعادة ما سقط بالحيض، والإقامة توجب إعادة ما
سقط بالسفر، فكما قدر أدنى مدة الطهر بخمسة عشر يوما فكذلك يقدر أدنى مدة الإقامة([8])، ولهذا قدرنا أدنى مدة الحيض
والسفر بثلاث أيام لكونهما مسقطتين([9]).
وأجيب: بأن(قياسهم على أقل الطهر، لا يصح،
لأن أقل الطهر دون خمسة عشر يوما وهو أن تطهر من حيضها ثم تضع حملها بعد يوم وترى
دم النفاس، فيكون طهرها اليوم الذي بين حيضها ووضعها وإنما أقل الطهر خمسة عشر
يوما إذا كان بين حيضين على إلزام الصلاة، وإتمامها لا يتعلق بمدة وإنما يتعلق
بالعزم على أن لا يعد.)([10]).
ودليلهم:
1. ما أخرجه الطحاوي (¬): عن ابن عباس وابن عمر -€ - أنهما قالا: (إذا دخلت بلدة
وأنت مسافر وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يوما فأكمل الصلاة وإن كنت لا تدري متى
تظعن([11]) فأقصر)([12]).
2. وعَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَجْمَعَ عَلَى
إِقَامَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، سَرَّحَ ظَهْرَهُ، وَصَلَّى أَرْبَعًا»([13]).
3. وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: «إِذَا أَجْمَعَ رَجُلٌ عَلَى
إِقَامَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ أَتَمَّ الصَّلَاةَ»([14]).
4. وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «إِذَا أَقَمْتَ أَكْثَرَ مِنْ
خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ»([15]).
وجه الدلالة: وهذا باب لا يوصل إليه بالاجتهاد؛
لأنه من جملة المقادير، ولا يظن بهما التكلم جزافا، فالظاهر أنهما قالاه سماعا من
رسول الله ‘.
5. ((قَدِمَ النَّبِيُّ (‘)
وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالحَجِّ))([16]).
وجه الدلالة: (أن رسول الله -‘ - مع أصحابه دخلوا مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة ومكثوا ذلك اليوم،
واليوم الخامس واليوم السادس واليوم السابع فلما كان صبيحة اليوم الثامن وهو يوم
التروية خرجوا إلى منى، وكان رسول الله -‘ - يصلي بأصحابه ركعتين وقد وطنوا
أنفسهم على إقامة أربعة أيام، دل أن التقدير بالأربعة غير صحيح وما روي من الحديث
فليس فيه ما يشير إلى تقدير أدنى مدة الإقامة بالأربعة؛ لأنه يحتمل أنه علم أن
حاجتهم ترتفع في تلك المدة فرخص بالمقام ثلاثا لهذا لا لتقدير)([17]).
(احتج
أصحاب أبي حنيفة بأن قولهم أكثر ما قيل، وأنه مجمع عليه أنه إذا نوى المسافر إقامة
ذلك المقدار أتم، ولا يخرج عن حكم القصر إلا بإجماع.
وأجيب: أن هذا باطل،
قد جاء عن سعيد بن جبير أنه يقصر حين ينوي أكثر من خمسة عشر يوما، وقد اختلف عن
ابن عمر نفسه. وخالفه ابن عباس فبطل قولهم عن أن يكون له حجة)([18]).
القول الثاني: قال المالكية([19]) والشافعية([20])وأبو ثور وهي رواية عن أحمد ([21]): إذا نوى إقامة أربعة أيام
بلياليهن أتم صلاته. ونية المسافر إقامة ثلاثة أيام فما دون لا يخرجه عن حكم السفر.
قال مالك (¬): (والمسافر في البر والبحر سواء
إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم الصلاة وصام.)([22]).
قال الشافعي (¬): (فإن نوى السفر فأقام أربعة أيام
أتم الصلاة)([23]).
قال الطحاوي: (ما قال الشافعي خلاف
الإجماع؛ لأنه لم ينقل عن أحد قبله بأنه يصير مقيما بنية الإقامة أربعة أيام)([24]).
قال ابن حجر (¬): (وزعم الطحاوي أن الشافعي لم يسبق إلى أن المسافر يصير بنية إقامته
أربعة أيام مقيما وقد قال أحمد نحو ما قال الشافعي وهي رواية عن مالك)([25]).
توضيح: المالكية عندهم أربعة أيام عدا يوم
الدخول وعند الشافعية أربعة أيام عدا يومي الدخول والخروج([26]): قال ابن القاسم (¬): (إذا أجمع المسافر إقامة أربعة أيام، فإنه يصلي صلاة مقيم لا يحسب اليوم
الذي يدخل فيه، ولكن إن كان نوى إقامة أربعة أيام وأربع ليال مستقبلة سوى اليوم
الذي دخل فيه أتم الصلاة، وإن كان دخل أول النهار، فإني أحب إلي أن يحسب ذلك
اليوم.)([27]). وقال الماوردي (¬): (وإن نوى مقام أربعة أيام سوى اليوم الذي دخل فيه واليوم الذي يخرج منه
لزمه أن يتم)([28]).
*سبب خلاف الأئمة (†): (أنه أمر مسكوت عنه في الشرع والقياس([29]) على التحديد ضعيف عند الجميع، ولذلك رام هؤلاء كلهم أن يستدلوا
لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه -‰ - أنه أقام فيها مقصرا، أو أنه
جعل لها حكم المسافر)([30]).
تعليلهم: (أنها أيام لا يستوعبها المسافر
بالمسح الواحد فلم يجز القصر إذا أقامها كالخمسة عشر يوما، ولأنها أيام تزيد على
أقل الجمع فلم يكن فيها مسافرا ولا عازما كالخمسة عشر، لأنها مدة لا يجوز للذمي أن
يقيمها في جزيرة العرب فصارت كالشهر)([31]).
دليلهم:
1.
قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101].
وجه الدلالة: وهذا مع نية الإقامة غير ضارب([32]).
وأجيب: (وليس بصحيح لأن ترك الضرب يحصل
بنية ثلاثة أيام أيضا)([33]).
2.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (ƒ)، قَالَ: ((كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا،
وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ الدَّبَرْ، وَعَفَا الْأَثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ،
حَلَّتِ الْعُمْرَةُ، لِمَنِ اعْتَمَرْ، فَقَدِمَ النَّبِيُّ (‘) وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ، مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ..))([34]).
وجه الدلالة: (فدل على أن ما فوق ثلاث في حيز
الإقامة؛ إذ لم يبح ذلك رسول الله -‘ - للمهاجر الذي لا تصح له الإقامة
بمكة)([35]).
وأجيب: (أن «رسول الله -‘ - مع أصحابه دخلوا مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة ومكثوا ذلك اليوم،
واليوم الخامس واليوم السادس واليوم السابع فلما كان صبيحة اليوم الثامن وهو يوم
التروية خرجوا إلى منى، وكان رسول الله -‘ - يصلي بأصحابه ركعتين وقد وطنوا
أنفسهم على إقامة أربعة أيام، دل أن التقدير بالأربعة غير صحيح وما روي من الحديث
فليس فيه ما يشير إلى تقدير أدنى مدة الإقامة بالأربعة؛ لأنه يحتمل أنه علم أن
حاجتهم ترتفع في تلك المدة فرخص بالمقام ثلاثا لهذا لا لتقدير)([36]).
قال ابن تيمية (¬): (وليس في هذا ما يدل على أن هذه المدة فرق بين المسافر والمقيم بل
المهاجر ممنوع أن يقيم بمكة أكثر من ثلاث بعد قضاء المناسك. فعلم أن الثلاث مقدار
يرخص فيه فيما كان محظور الجنس.. وقد أقام المهاجرون مع النبي (‘) عام الفتح قريبا من عشرين يوما بمكة ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا
بها عن السفر ولا كانوا ممنوعين لأنهم كانوا مقيمين لأجل تمام الجهاد وخرجوا منها
إلى غزوة حنين؛ وهذا بخلاف من لا يقدم إلا للنسك فإنه لا يحتاج إلى أكثر من ثلاث.
فعلم أن هذا التحديد لا يتعلق بالقصر ولا بتحديد السفر.)([37]).
(وقد علم أن المقام بمكة كان حراما
على المهاجر، فلما استثنى الثلاث علم أنها ليست بإقامة فوجب أن يكون ما زاد عليها
إقامة. ولأنه ليس له الجمع بين الصلاتين، فلم يكن له القصر، أصله إذا نوى إقامة
خمسة عشر يوماً. ولأنه نوى إقامة أيام تزيد على أقل الجمع، فكان القصر غير جائز،
أصله ما ذكرناه.)([38]).
وأجيب: (وأما الحديث فإنه -‘ - إنما قدر هذا لأنه علم أن حوائجهم كانت ترفع في هذه المدة لا لتقدير
أدنى مدة الإقامة.)([39]).
جواب آخر: (هذا لا
حجة لهم فيه؛ لأنه ليس في هذا الخبر نص ولا إشارة إلى المدة التي إذا أقامها
المسافر أتم، وإنما هو في حكم المهاجر، فما الذي أوجب أن يقاس المسافر يقيم على
المهاجر يقيم؟ .. وأيضا: فإن المسافر مباح له أن يقيم ثلاثا وأكثر من ثلاث، لا
كراهية في شيء من ذلك، وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر
من ثلاث، فأي نسبة بين إقامة مكروهة وإقامة مباحة؟ وأيضا: فإن ما زاد على الثلاثة
الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافرا لا مقيما، وما زاد على الثلاثة
للمسافر فإقامة صحيحة، وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، ولو قيس أحدهما على
الآخر لوجب أن يقصر المسافر فيما زاد على الثلاث، لا أن يتم، بخلاف قولهم؟ وأيضا:
فإن إقامة قدر صلاة واحدة زائدة على الثلاثة مكروهة، فينبغي عندهم - إذا قاسوا
عليه المسافر - أن يتم ولو نوى زيادة صلاة على الثلاثة الأيام)([40]).
وروي عن عثمان بن عفان من أقام أربعا أتم.
وأجيب: أنه روي عنه عكس ذلك([41]).
القول الثالث: قال الحنابلة([42]): الى أن من أقام إحدى وعشرين صلاة
يقصر ومن أقام أكثر فإنه يتم.
دليلهم: (أن النبي (‘) قدم لصبح رابعة قال: فأقام اليوم
الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن وكان يقصر الصلاة
في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي (‘) قصر فإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم. قال الأثرم: قلت له: فلم لم يقصر على
ما زاد من ذلك؟ قال: لأنهم اختلفوا فيأخذ بالأحوط فيتم.
وأجيب: بأن أحمد لم يذكر دليلا على وجوب
الإتمام إنما أخذ بالاحتياط وهذا لا يقتضي الوجوب. وأيضا فإنه معارض بقول من يوجب
القصر ويجعله عزيمة في الزيادة)([43]).
وجواب آخر عن التحديد: (..أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر
يقصرون الصلاة وكانوا يقصرون الصلاة مع علمهم أن حاجتهم لا تنقضي في أربعة أيام
ولا أكثر. كما أقام النبي (‘) وأصحابه بعد فتح مكة قريبا من عشرين يوما يقصرون
الصلاة وأقاموا بمكة عشرة أيام يفطرون في رمضان. وكان النبي (‘) لما فتح مكة يعلم أنه يحتاج أن يقيم بها أكثر من أربعة أيام)([44]).
تنبيه: يحسب يوم الدخول والخروج من المدة،
على الصحيح من المذهب([45]).
البدو
وغيرهم ممن ليس لهم مكان ثابت الأصح [عند الحنفية] وهو قول المالكية أنهم مقيمون؛
لأن عادتهم الإقامة في المفاوز دون الأمصار والقرى، فكانت المفاوز لهم كالأمصار
والقرى لأهلها ولأن الإقامة للرجل أصل والسفر عارض وهم لا ينوون السفر بل ينتقلون
من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى مرعى حتى لو ارتحلوا عن أماكنهم وقصدوا موضعا آخر
بينهما مدة سفر صاروا مسافرين في الطريق)([46]).
تنبيه: (وأما الوطن فيجب الإتمام بدخوله
ولا يتوقف على نية إقامة، ومثله المحل المعتاد لإقامة أربعة أيام به فأكثر كمكة
للحاج فإنه يجب الإتمام بمجرد دخولها.)([47]).
فرع: لو نوى المتبوع الإقامة، ولم يعلم
بها التابع فهو مسافر حتى يعلم كالوكيل، إذا عزل وهو الأصح([48]).
مسألة: لو دخل مصرا ولم يعزم على الإقامة -المدة في كل
مذهب- وفي ظنه يرجع قبل المدة يقصر وان طالت سنين:
قال الترمذي (¬): (أجمع
أهل العلم على أن المسافر يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون.)([49]).
في
الهداية: (ولو دخل مصرا على عزم أن يخرج غدا أو بعد غد ولم ينو مدة الإقامة حتى بقي
على ذلك سنين قصر)([50]).
قال ابن رشد (¬): (ولذلك اتفقوا على أنه إن كانت الإقامة مدة لا يرتفع فيها عنه اسم السفر
بحسب رأي واحد منهم في تلك المدة، وعاقه عائق عن السفر أنه يقصر أبدا، وإن أقام ما
شاء الله.)([51]).
دليلهم:
·
قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]. (وما لم يتقرر
للمسافر عزم ثابت على إقامة ينتقل بها عن حكم السفر فالاسم يتناولهم.)([52]).
1. إجماع الصحابة -€ - فإنه روي عن سعد بن أبي وقاص -¢ - أنه أقام بقرية من قرى نيسابور شهرين وكان يقصر الصلاة، وعن ابن عمر -ƒ - أنه أقام بأذربيجان شهرا وكان يصلي ركعتين، وعن علقمة أنه أقام بخوارزم
سنتين وكان يقصر([53]).
2.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ([54]) (ƒ)، قَالَ: ((أَقَامَ النَّبِيُّ (‘) تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ،
فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا))([55]). والقياس بمقابلة النص، والإجماع
باطل.
???
مسألة:
العسكر يدخلون أرض الحرب أو يحاصرون حصنا:
القول الأول: عند الحنفية والمالكية وقول
المزني: لو دخل المسلمون العسكر دار حرب أو حاصروا حصنا فإنهم يقصرون أبدا وإن
نووا الإقامة.
في الهداية: (وإذا دخل العسكر أرض الحرب فنووا
الإقامة بها قصروا وكذا إذا حاصروا فيها مدينة أو حصنا)([56]).
دليلهم:
·
عَنْ أَبِي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ
عِمْرَانَ، قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّا نُطِيلُ الْقِيَامَ بِالْغَزْوِ
بِخُرَاسَانَ فَكَيْفَ تَرَى؟ فَقَالَ: «صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ أَقَمْتَ
عَشْرَ سِنِينَ»([57]).
·
عَنْ
أَنَسٍ " أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ
(‘) أَقَامُوا بِرَامَهُرْمُزَ تِسْعَةَ
أَشْهُرٍ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ ".
·
وعن
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: " خَرَجْتُ مَعَ
أَبِي وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ
عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيِّ عَامَ أَدْرَجَ، فَوَقَعَ الْوَجَعُ بِالشَّامِ،
فَأَقَمْنَا بِالسَّرْغِ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَدَخَلَ عَلَيْنَا رَمَضَانُ،
فَصَامَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَفْطَرَ سَعْدُ
بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبَى أَنْ يَصُومَ، فَقُلْتُ لِسَعْدٍ: يَا أَبَا
إِسْحَاقَ أَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ (‘)
وَشَهِدْتَ بَدْرًا، وَالْمِسْوَرُ يَصُومُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَنْتَ
تُفْطِرُ؟ قَالَ سَعْدٌ: " إِنِّي أَنَا أَفْقَهُ مِنْهُمْ "([58])
تعليلهم:
أنّ(نية الإقامة نية القرار وإنما
تصح في محل صالح للقرار، ودار الحرب ليست موضع قرار المسلمين المحاربين لجواز أن
يزعجهم العدو ساعة فساعة لقوة تظهر لهم؛ لأن القتال سجال أو تنفذ لهم في المسلمين
حيلة؛ لأن الحرب خدعة فلم تصادف النية محلها فلغت؛ ولأن غرضهم من المكث هنالك: فتح
الحصن دون التوطن، وتوهم انفتاح الحصن في كل ساعة قائم فلا تتحقق نيتهم إقامة خمسة
عشر يوما)([59]).
(وأجابوا عن أحاديث
الرخصة عن الصحابة: بأنهم لم يقيموا تسعة أشهر في مكان واحد بل كانوا يتنقلون في تلك الناحية)([60]).
القول الثاني: قال الشافعية([61]): نوى في الحرب إقامة أربعة أيام
فالأصح أنه يتم.
دليلهم:
ما سبق.
تنبيه: قال الجويني (¬): (واعلموا أن المسألة التي توشَحَها أقوالٌ ضعيفة وانتشرت أطرافها، فقد يأتي
بعض التفاريع على خلاف الإجماع. وبيانه أنه ينتظم مما ذكرناه، أن التاجر الذي يعلم
أن تجارته لا تنتجز إلاّ في سنة، يقيم فيها ويقصر، وهذا بعيد جداً، لا سبيل إلى
المصير إليه، وهو نتيجة تفريعاتٍ على أقوال ضعيفة.)([62]).
يظهر لي –والله أعلم- من خلال تتبع أقوال الفقهاء
وتعليلاتهم وأدلتهم أن القول الأحوط: ما ذهب اليه المالكية والشافعية، وأن القول
الأقوى: ما ذهب اليه الحنفية. وسبب ذلك: ما صح عن ابن عباس وابن عمر (ƒ) فيما تقدم وهو ما ذهب اليه
الحنفية. أضف الى ذلك أن تعليلاتهم وردودهم أقوى من تعليلات وردود بقية المذاهب.
وكذلك يظهر لي قوة القول بأن العسكر
يقصرون أبدا لأنهم لا يدرون متى يفتح عليهم وهذا هدي الصحابة كما سبق من الآثار
الصحيحة.
???
المحتويات
أقوال المذاهب في المدة
التي تقصر فيها الصلاة وأشهرها ثلاثة:
مسألة: لو دخل مصرا ولم يعزم على الإقامة المدة في كل مذهب وفي ظنه يرجع قبل
المدة يقصر وان طالت سنين:
مسألة: العسكر يدخلون
أرض الحرب أو يحاصرون حصنا:
([5])
لو أنّ الحاج دخل مكة في أيام العشر ونوى الإقامة خمسة عشر يوما أو دخل قبل أيام
العشر لكن بقي إلى يوم التروية أقل من خمسة عشر يوما ونوى الإقامة لا يصح؛ لأنه
لا بد له من الخروج إلى عرفات فلا تتحقق نية إقامته خمسة عشر يوما فلا يصح. بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 98). تنبيه:
(التوالي لا يشترط إذا لم يكن من عزمه الخروج إلى موضع آخر لأنه يكون ناويا
الإقامة في موضعين، نعم بعد رجوعه من منى صحت نيته لعزمه على الإقامة نصف شهر في
مكان واحد، والله أعلم.) .. (وفي البحر لو كان الموضعان من مصر واحد أو قرية
واحدة فإنها صحيحة لأنهما متحدان حكما ألا ترى أنه لو خرج إليه مسافرا لم يقصر. اç. ) الدر
المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 126).
+ (وقيل: كان سبب تفقه عيسى بن أبان
هذه المسألة وذلك أنه كان مشغولا بطلب الحديث، قال: فدخلت مكة في أول العشر من ذي
الحجة مع صاحب لي، وعزمت على الإقامة شهرا فجعلت أتم الصلاة فلقيني بعض أصحاب أبي
حنيفة فقال: أخطأت فإنك تخرج إلى منى وعرفات فلما رجعت من منى بدا لصاحبي أن يخرج
وعزمت على أن أصاحبه وجعلت أقصر الصلاة فقال لي صاحب أبي حنيفة: أخطأت فإنك مقيم
بمكة فما لم تخرج منها لا تصير مسافرا فقلت: أخطأت في مسألة في موضعين فدخلت مجلس
محمد واشتغلت بالفقه وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم مبلغ علم الفقه فيصير مبعثة
للطلبة على طلبه.) الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 126).
([6])
فهو موضع اللبث والقرار في العادة نحو الأمصار والقرى، وأما المفازة والجزيرة
والسفينة فليست موضع الإقامة، حتى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خمسة عشر يوما
لا يصير مقيما كذا روي عن أبي حنيفة. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 98).
وينظر الاختيار لتعليل المختار (1/ 79)
([8])
(وأما قول صاحب (الهداية): فقدرناه بمدة الطهر؛ لأنها مدتان موجبتان، فمعناه أن
بعد ثبوت التقدير بالخبر وجدناه على وفق صورة قياس ظاهر، فرجحنا به المروي عن ابن
عباس وابن عمر -€- على
المروي عن عثمان -¢- أنها أربعة
أيام، كما هو مذهب الشافعي ¬ من أنه إن
نوى الإقامة أربعة أيام فصاعدأ أتم، كما هو دأبنا في التمسك بالقياسات والدلائل
العقلية، إنما هو لترجيح بعض الأخبار على بعض لا قياس في مقابلة النص، كما زعم
الخصم..) لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (3/ 451).
([16]) رواه
البخاري كتاب الحج، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه
هدي، ح(1489)، ورواه مسلم كتاب الحج، باب جواز العمرة في أشهر الحج، ح(1240)،
ورواه النسائي كتاب مناسك الحج، باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي، ح(2813)،
قال الشيخ الألباني: صحيح.
([19])
ينظر مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (2/
150) و شرح مختصر خليل للخرشي (2/ 57) و الرسالة للقيرواني (ص: 46) و الكافي في
فقه أهل المدينة (1/ 245)
+ عند الشافعية: اذا نوى الاقامة في
أثناء سفره –أي في الطريق- في بلد يصلح للاقامة انقطع سفره في الحال. وان نوى
الاقامة وهو سائر لم ينقطع سفره، أما إذا نوى الإقامة في بلد ثلاثة أيام فأقل فلا
ينقطع الترخص بلا خلاف. ينظر المجموع شرح المهذب (4/ 360).
([20])
ينظر: الأم للشافعي (1/ 212) والحاوي الكبير، الماوردي (2/ 371) و المجموع شرح
المهذب (4/ 359) و نهاية المطلب في دراية المذهب (2/ 430)
([26])
قال الماوردي ¬: (فإذا ثبت
ما ذكرناه فكل من نوى مقام أربعة أيام كوامل سوى يوم دخوله ويوم خروجه فقد وجب
عليه إتمام الصلاة، وإنما يحسب عليه يوم دخوله ويوم خروجه لأن السفر يجمع السير
والنزول والترحال فلم يحسب عليه يوم دخوله لأنه فيه نازل ولا يوم خروجه لأنه فيه
راحل، ولأن المسافر لا يتصل مسيره في جميع يومه وإنما جرت العادة بالسير في بعضه
والمناخ والاستراحة في بعضه، فمن أجل ذلك لم يحتسب يوم دخوله ويوم خروجه لوجود
السير في بعضه فلو دخل البلد ليلا ونوى مقام أربعة فقد حكى أبو حامد عن الداركي
أنه لا يحتسب عليه ليلة دخوله ولا اليوم الذي بعدها، وإن الشافعي نص في "
الأم " على ما يدل عليه فقال: وإذا نوى مقام أربعة أيام بلياليها أتم، وإنما
كان كذلك لأن الليلة تابعة ليومها واليوم تابع لها، فلما لم يحتسب ليلة الدخول
لوجود السير في بعضها لم يحتسب اليوم الذي بعدها لأنه تبع لها) الحاوي الكبير (2/
373).
+ (قال علي: فإذ قدم رسول الله -‘
- صبح رابعة من ذي الحجة، فبالضرورة نعلم: أنه أقام بمكة ذلك اليوم الرابع من ذي
الحجة، والثاني وهو الخامس من ذي الحجة، والثالث وهو السادس من ذي الحجة، والرابع
وهو السابع من ذي الحجة.
وأنه خرج -’
- إلى منى قبل صلاة الظهر من اليوم الثامن من ذي الحجة، هذا ما لا خلاف فيه بين
أحد من الأمة، فتمت له بمكة أربعة أيام وأربع ليال كملا، أقامها -’
- ناويا للإقامة هذه المدة بها بلا شك.
ثم خرج إلى منى في اليوم الثامن من
ذي الحجة كما ذكرنا؟ وهذا يبطل قول من قال: إن نوى إقامة أربعة أيام أتم؛ لأنه -’
- نوى بلا شك إقامة هذه المدة ولم يتم.) المحلى بالآثار (3/ 222).
+ قال الجويني ¬:
(ومما يتعلق بتحقيق ذلك أنا إذا قلنا: لا يحتسب يوم دخوله، أردنا النهار، فحسب،
إن دخل نهاراً، ولم نُرد اليوم بليلته، ولو دخل ليلاً، لم نحتسب عليه بقيةَ
الليل، فأما أن نقول: لا نحتسب بقية الليل ولا نحتسب الغد أيضاً، فلا. وتعليلُ ما
ذكرناه من ذلك واضح، فإن لم نحتسب عليه يوم الدخول لما عليه من الشغل فيه، فهذا
لا يدوم يوماً وليلة. وما ذكرناه من مقام المسافر ثلاثة أيام، فهي ثلاثة أيام
بلياليها قطعاً، والذي يغمض أنه لو انتهى المسافر إلى المنزل في بقيةٍ من النهار
قريبة، مثل أن كان انتهى إلى المنزل بعد وقت العصر قبل الغروب، وكان يقع شيء من
شغله في الليل لا محالة، فالذي أراه أن بقية النهار، والليلَ كلَّه غيرُ محسوب من
المدة، في هذه الصورة، نظراً إلى الشغل ووقوعه في الليل، فهذا إذا نوى مُقام
ثلاثة أيام.
وإن
نوى مُقام أربعة أيام، أو مُقام ثلاثة أيام ولحظة، ولم تكن إقامته لشغل، كأن
يرتقب تجارة، ولكنه جرَّد نية الإقامة في هذه المدة من غير شغل، صار مقيماً،
وانقطعت عنه الرخص المشروطة بالسفر وفاقاً.) نهاية المطلب في دراية المذهب (2/
431).
([27])
البيان والتحصيل (2/ 26) (وإنما قال ابن القاسم: إنه
يلغى اليوم الذي دخل فيه، إلا أن يكون دخل أول النهار، لما روي «أن رسول الله -‘ - قدم مكة
صبيحة رابعه من ذي الحجة، ثم خرج يوم التروية، وذلك أحد وعشرون صلاة، أو اثنان
وعشرون صلاة» ، فقصر بمنى -‘ - بعد أن أقام بمكة.).
([29]) أي قياس المسألة على الطهر بالنسبة للحنفية، وعلى المهاجر في ترك الإقامة
بمكة اكثر من ثلاث عن المالكية والشافعية والحنابلة.
([30])
بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/ 180).
+ ابن رشد ¬ له مسلك آخر في هذه المسألة فيقول: (والأشبه في
المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين: إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي روي عنه
-‰ - «أنه
أقام فيه مقصرا» ، ويجعل ذلك حدا من جهة أن الأصل هو الإتمام، فوجب ألا يزاد على
هذا الزمان إلا بدليل، أو يقول إن الأصل في هذا هو أقل الزمان الذي وقع عليه
الإجماع، وما ورد من أنه -‰ - «أقام مقصرا أكثر من ذلك الزمان» ، فيحتمل أن يكون
أقامه لأنه جائز للمسافر، ويحتمل أن يكون أقامه بنية الزمان الذي تجوز إقامته فيه
مقصرا باتفاق، فعرض له أن أقام أكثر من ذلك، وإذا كان الاحتمال وجب التمسك
بالأصل، وأقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن.) بداية
المجتهد ونهاية المقتصد (1/ 181).
([42])
ينظر: المغني لابن قدامة (2/ 214) و المبدع في شرح المقنع (2/ 121) و الإنصاف في
معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (2/ 329).
([54]) (قال
البيهقي بعد (ذكر) اختلاف الروايات عن ابن عباس: أصحها عندي رواية «تسع عشرة» وهي
الرواية التي أودعها البخاري (في) (جامعه) ، (فأحد) من رواها - ولم يختلف عليه في
علمي - عبد الله بن المبارك، وهو أحفظ من رواه عن عاصم الأحول.
قال: (ويمكن) الجمع بين رواية «ثماني
عشرة» و «تسع عشرة» و «سبع عشرة» بأن من روى «تسع عشرة» عد يوم الدخول و (يوم)
الخروج، ومن روى «سبع عشرة» لم يعدهما، ومن روى « (ثمان) عشرة» عد أحدهما.
ومن العجب أن الفتوى عندنا على رواية «
(ثمان) عشرة» مع ما فيها من التعليل، وكان ينبغي أن تكون الفتوى برواية تسع
عشرة.) البدر المنير (4/ 537).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق