الأربعاء، 18 نوفمبر 2020

المجدِّدون في الإسلام

 


بسم الله الرحمن الرحيم

 

المقدمة:

(الْحَمد لله الَّذِي أخرج عباده عَن شفا حُفْرَة النَّار ببعثة خَاتم أنبيائه وَسيد أصفيائه الأخيار وَهدى بِهِ الْفرق الباغية، والطوائف الطاغية من الكُفّار والفُجّار، وَفضل أمته على الْأُمَم الْمَاضِيَة، فيالهم من عزّ وافتخار ووهب لَهُم علما غزيرا وفهما كَبِيرا فاقوا بِهِ على من مضى من الصغار والكبار، وَجعل مِنْهُم أصحابا ونقادا وأبدالا وأوتاداً اشتغلوا بتفسير كتاب رَبهم وتنقيد آثَار نَبِيّهم أناء اللَّيْل وأطراف النَّهَار، ووعد على لِسَان رَسُوله بِأَن يبْعَث فِي أمته على رَأس كل مائَة سنة من يجدد لَهَا دينهَا وينقيه من تخاليط الأشرار وَجعل نظم الشَّرِيعَة الْعلية منتظما محكماً لَا يُبطلهُ جور جَائِر وَلَا كيد سَاحر، وَلَا يُفْسِدهُ كذب كَذَّاب غدار ومكار، أشهد أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَحده لَا شريك لَهُ وَأَن سيدنَا ومولانا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله سيد الْأَبْرَار وعَلى آله وَصَحبه الَّذين هَاجرُوا لنصرته ونصروه فِي هجرته وعَلى من حمل عَنْهُم عُلُوم الشَّرْع من التَّابِعين وَمن تَبِعَهُمْ إِلَى يَوْم الْقَرار صَلَاة دائمة لَا تَنْقَطِع مَا دَار الدوار وَسَار السيار)([1])، أما بعد:

هذه صفحات يسيرات من حياة بعض المجددين الأعلام الذين ملئوا الدنيا علما وأعجب العالمين بحججهم الباهرة وبراهينهم القاهرة ونحن بهم نقتدي وعلى سبيلهم نسير ومن بحور علومهم نغترف.

ولم أدون كل شيء عنهم؛ بل أقطف بعض الزهور من حدائق سيرهم الناضرة. وكذلك لم أذكر جميع المجددين بل ذكرت منهم المبرزين المجمع على جلالتهم وعظيم علومهم سائلا المولى أن ينفعنا بعلومهم ويثيبنا على تسطير هذه الكلمات إنه نعم المولى ونعم النصير.

 

عمر العبد الله

3/ربيع الآخر/ 1442ه


 

تمهيد:

هذا تمهيد نتكلم فيه عن التجديد لغة واصطلاحا، وعن بعض الملحقات والتنبيهات المهمة بين يدي هذه الصفحات.

 

التجديد لغة:

 

(جدَّدَ يُجدِّد، تجديدًا، فهو مُجدِّد، والمفعول مُجدَّد (للمتعدِّي)

• جدَّد الأديبُ: (دب) جاء بالجديد وأبدع وابتكر "جدّد الشعراءُ المعاصرون في شكل القصيدة- حركة التجديد في الشِّعر مستمرّة".

• جدَّد الشَّيءَ: صيَّره جديدًا حديثًا "جدَّد هواءَ الغرفة/ أثاث بيته- جدَّدت الحكومةُ قطاعَ السِّكَّك الحديديّة- جدَّد أسلوبه الروائيّ" جدَّد أحزانه: أثار شجونه.

• جدَّدوا انتخابَ الرَّئيس: أعادوه? جدّد الشُّربَ: استأنفه- خاطبته مُجدَّدًا في القضيَّة: مرَّة أخرى.

• جدَّد قواه: استردّها وأعاد حيويّته. جدّد نشاطه/ جدّد شبابَه: أخذ بعض الراحة ليعود أكثر قدرة على العمل.

• جدَّد الإجازةَ أو المعاهدةَ أو نحوَهما: مدَّد مدَّة العمل بها "جدَّد جوازَ سفره/ عضويّته"? جدَّد إيجارًا/ جدَّد عقدًا: جعل مفعوله يسري ثانيةً- جدَّد معلوماته: واظب على الاطِّلاع)([2]).

التجديد اصطلاحا:

 

(المراد من تجديد الدين للأمة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإماتة البدع والمحدثات، وكسر أهلها باللسان، أو تصنيف الكتب، أو التدريس أو غير ذلك)([3]).

 

وقال الطنطاوي ¬: (لقد ورد أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة مَن يجدّد لها دينها؛ أي ينقّيه مما علق به من أوضار البدع والمُحدَثات حتى يردّه إلى أهله كما نزل به الوحي وبيّنه الرسول '، أي يغسله كما يُغسَل الثوب المستعمَل ويكوى ويطيَّب حتى يعود كالجديد. كذلك يُحيي الله بالرجل الواحد بلداً ميتاً فيه الأدبُ والعلم، ورُبّ رجل واحد يكون على يده نهضة شعب)([4]).

 

تنبيه: قال ابن العربي ¬: (والتجديد يكون لأمر الدين لا للدين نفسه. وأمر الدين كله تتسع لتشمل كل المعارف التي فجرها هذا الدين، سواء أكانت في أصول الدين، أم أصول الفقه، أم أصول الدنيا)([5]).

 

 

حديث الوعد بتجديد الدين:

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ([6]) مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»([7]).

 

(وحديث أبي هريرة سكت عنه المنذري وقال السيوطي في مرقاة الصعود اتفق الحفاظ على تصحيحه منهم الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل.

وممن نص على صحته من المتأخرين الحافظ بن حجر انتهى.

 

وقال العلقمي في شرح الجامع الصغير قال شيخنا اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح.

 

وممن نص على صحته من المتأخرين أبو الفضل العراقي وبن حجر ومن المتقدمين الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل انتهى.

 

وقال المناوي في فتح القدير أخرجه أبو داود في الملاحم والحاكم في الفتن وصححه والبيهقي في كتاب المعرفة كلهم عن أبي هريرة. قال الزين العراقي وغيره سنده صحيح)([8]).

 

شروط التجديد:

 

·       أن يكون عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة.

·       ناصرا للسنة النبوية.

·       قامعا للبدعة.

·       أن يعم علمه أهل زمانه.

·       أن يكون على رأس كل مائة سنة([9]).

 

هل يلزم أن يكون المجدد واحدا؟

 

في المسألة قولان: منهم من يرى أن المجدد على رأس كل مائة سنة واحد، ومنهم من يرى أن ذلك لا يلزم بل قد يكون بأكثر من شخص.

 

قال ابن كثير ¬: (وقد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر، والله أعلم، أنه يعم حملة العلم العاملين به من كل طائفة، ممن عمله مأخوذ عن الشارع، أو ممن هو موافق من كل طائفة وكل صنف من أصناف العلماء، من مفسرين، ومحدثين، وقراء، وفقهاء، ونحاة، ولغويين، إلى غير ذلك من أصناف العلوم النافعة، والله أعلم)([10]).

 

وقال السيوطي ¬: (قال بعض شراح الحديث ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يلزم أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلا واحد بل قد يكون واحدا وقد يكون أكثر فإن انتفاع الأمة بالفقهاء وإن كان عاما في أمور الدين فإن انتفاعهم بغيرهم أيضا كبير مثل أولى الأمر وأصحاب الطبقات ينتفع بكل في قول لا ينتفع بالآخر فيه

فأولوا الأمر ينتفع بهم في العدل والتناصف وحقن الدماء والتمكن من إقامة قوانين الشرع

وأصحاب الحديث ينتفع بهم في ضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع الدنيا فكل واحد ينتفع بغير ما ينتفع به الآخر

قال لكن الذي ينبغي أن يكون المبعوث على رأس المائة وجلا واحدا مشارا إليه في كل فن من هذه الفنون وهو المجتهد.

قال فإذا حمل تأويل الحديث على هذا الوجه كان أولى وأشبه بالحكمة.. قلت ويؤيد ما ذكره هذا الشارح عن أن المراد في الحديث رجل واحد لا مجموع أناس ما أخرجه أبو إسماعيل الهروي عن حميد بن زنجويه قال سمعت أحمد بن حنبل يقول يروي في الحديث عن النبي يمن على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل فيبين لهم أمر دينهم.

 

وأني نظرت في مائة سنة فإذا هو عمر بن عبد العزيز وفي رأس المائة الثانية فإذا هو محمد بن إدريس الشافعي

واخرج البيهقي من طريق أبي بكر المروزي قال قال أحمد بن حنبل ذكر في الخبر أن الله يقيض في رأس كل مائة سنة من يعلم الناس السنن وينفي عن النبي الكذب فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز وفي رأس المائتين الشافعي..)([11]).

 

وقال ابن حجر ¬: (ونظير ما نبه عليه ما حمل عليه بعض الأئمة حديث إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة وهو متجه فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفا بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل فعلى هذا كل من كان متصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدد أم لا).

 

وقال الطيبي ¬: (وقوله: ((من يجدد)) جامع الأصول: قد تكلم العلماء على تأويله، وكل واحد أشار إلى القائم الذي هو من مذهبه، وحمل الحديث عليه، والأولى الحمل على العموم؛ فإن لفظة ((من)) تقع على الواحد والجمع، ولا تخص أيضاً بالفقهاء؛ فإن انتفاع الأمة بهم وإن كان كثيراً [فإن انتفاعهم بأولي الأمر وأصحاب الحديث والقراء والوعاظ والزهاد أيضاً كثير]- إذ حفظ الدين وقوانين السياسة وبث العدل وظيفة أولي الأمر، وكذا القراءة وأصحاب الحديث ينفعون بضبط التنزيل والأحاديث التي هي أصول الشرع وأدلته، والزهاد ينفعون بالمواعظ، والحث على لزوم التقوى، والزهد في الدنيا- لكن المبعوث ينبغي أن يكون مشاراً إليه مشهوراً في كل فن من هذه الفنون)([12]).

 

في معنى رأس المائة:

 

في معناه قولان: منهم من قال أول القرن ومنهم من قال آخر القرن..

قال المناوي ¬: ((على رأس) أي أول ورأس الشيء أعلاه ورأس الشهر أوله.. ثم قال: ومعنى إرسال العالم تأهله للتصدي لنفع الأنام وانتصابه لنشر الأحكام وموته على رأس القرن أخذ لا بعث فتدبر بإنصاف.)([13]).

 

(والدليل الواضح على أن المراد برأس المائة هو آخرها لا أولها أن الزهري وأحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة المتقدمين والمتأخرين اتفقوا على أن من المجددين على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز ¬ وعلى رأس المائة الثانية الإمام الشافعي ¬ وقد توفي عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة وله أربعون سنة ومدة خلافته سنتان ونصف وتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين وله أربع وخمسون سنة)([14]).

 

وقال السيوطي ¬: (قال ثم المراد من انقضت المائة وهو حي مشار إليه)([15]).

(فإن قلت الظاهر من رأس المائة من حيث اللغة هو أولها لا آخرها فكيف يراد آخرها قلت كلا بل جاء في اللغة رأس الشيء بمعنى آخره أيضا.

قال في تاج العروس رأس الشيء طرفه وقيل آخره انتهى.

قلت وعليه حديث بن عمر أريتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد أخرجه الشيخان فإنه لا مرية في أن المراد من رأس المائة في هذا الحديث هو آخر المائة.

 

قال الحافظ في فتح الباري في تفسير رأس مائة سنة أي عند انتهاء مائة سنة

انتهى.

وقال الطيبي الرأس مجاز عن آخر السنة وتسميته رأسا باعتبار أنه مبدأ لسنة أخرى انتهى.

وعليه حديث أنس بعثه الله على رأس أربعين سنة فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين وتوفاه الله على رأس ستين سنة. الحديث أخرجه الترمذي في الشمائل.

 قال في مجمع البحار توفاه على رأس ستين أي آخره، ورأس آية آخرها.

فإذن ظهر حق الظهور أن المراد من رأس كل مائة آخر كل مائة..

وقال الكرماني قد كان قبيل كل مائة أيضا من يصحح ويقوم بأمر الدين وإنما المراد من انقضت المدة وهو حي عالم مشار إليه ولما كان ربما يتوهم متوهم من تخصيص البعث برأس القرن أن العالم بالحجة لا يوجد إلا عنده أردف ذلك بما يبين أنه قد يكون في أثناء المائة من هو كذلك بل قد يكون أفضل من المبعوث على الرأس وأن تخصيص الرأس إنما هو لكونه مظنة انخرام علمائه غالبا وظهور البدع وخروج الدجالين انتهى كلامه)([16]).


 

 

 

 

+++

 

 

عمر بن عبد العزيز ¢([1])

قال الامام السبكي ¬: (واتفق الناس على أن المبعوث على رأس الأولى عمر بن عبد العزيز ¬)([2]).

 

نسبه وصفته:

 

عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم القرشي الأموي ¢، وأمه ابنة عاصم بن عمر الخطاب رضى الله عنه، الإمام، الحافظ، العلامة، المجتهد، الزاهد، العابد، السيد، أمير المؤمنين حقا، أبو حفص المدني، ثم المصري، الخليفة، الزاهد، الراشد، أشج بني أمية.

ملك تسعة وعشرين شهرا مثل خلافة أبي بكر ¢ ، ولد سنة ثلاث وستين ومات في سنة إحدى ومائة بالشام وهو ابن تسع وثلاثين سنة ¬ ورضي عنه.

وكان ثقة، مأمونا، له فقه وعلم وورع، وروى حديثا كثيرا، وكان إمام عدل -¬، ورضي عنه -.

وكان أسمر اللون، رقيق الوجه، حسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر نفحة دابة، قد وخطه الشيب.

كيف بدأت خلافته؟

 

عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثيابا خضرا من خز ونظر في المرآة فقال: أنا والله الملك الشاب.

 

فخرج إلى الصلاة يصلي بالناس الجمعة فلم يرجع حتى وعك فلما ثقل كتب كتابا عهده إلى ابنه أيوب. وهو غلام لم يبلغ. فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين. إنه مما يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف الرجل الصالح. وقال سليمان: كتاب أستخير الله فيه وأنظر ولم أعزم عليه. فمكث يوما أو يومين ثم خرقه ثم دعاني فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت: هو غائب بقسطنطينة وأنت لا تدري أحي هو أم ميت. قال: يا رجاء فمن ترى؟ قال فقلت: رأيك يا أمير المؤمنين. وأنا أريد أن أنظر من يذكر. فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه والله فاضلا خيارا مسلما. فقال: هو على ذلك. والله لئن وليته ولم أول أحدا من ولد عبد الملك لتكونن فتنة ولا يتركونه أبدا يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده.

 

ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم. قال: فيزيد بن عبد الملك أجعله بعده فإن ذلك مما يسكنهم ويرضون به. قلت: رأيك. قال فكتب بيده: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز. فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم. وختم الكتاب فأرسل إلى كعب بن حامز صاحب شرطه أن مر أهل بيتي فليجتمعوا.

 

فأرسل إليهم كعب فجمعهم ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابي هذا إليهم فأخبرهم أنه كتابي. ومرهم فليبايعوا من وليت. قال ففعل رجاء. فلما قال لهم ذلك رجاء قالوا: سمعنا وأطعنا لمن فيه. وقالوا: ندخل فنسلم على أمير المؤمنين. قال: نعم. فدخلوا فقال لهم سليمان: هذا الكتاب. وهو يشير لهم وهم ينظرون إليه في يد رجاء بن حيوة. هذا عهدي فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب. قال فبايعوه رجلا رجلا. قال ثم خرج بالكتاب مختوما في يد رجاء.

 

قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: يا أبا المقدام إن سليمان كانت لي به حرمة ومودة وكان بي برا ملطفا فأنا أخشى أن يكون قد أسند إلي من هذا الأمر شيئا فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر الساعة. فقال رجاء: لا والله ما أنا بمخبرك حرفا واحدا. قال فذهب عمر غضبان.

 

قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك. فقال: يا رجاء إن لي بك حرمة ومودة قديمة وعندي شكر. فأعلمني أهذا الأمر إلي؟ فإن كان إلي علمت وإن كان إلى غيري تكلمت. فليس مثلي قصر به ولا نحي عنه هذا الأمر. فأعلمني فلك الله ألا أذكر اسمك أبدا.

قال رجاء: فأبيت وقلت لا والله لا أخبرك حرفا واحدا مما أسر إلي. فانصرف هشام وهو موأس وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول: فإلى من إذا نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ فو الله إني لعين بني عبد الملك.

 

قال رجاء: ودخلت على سليمان بن عبد الملك فإذا هو يموت. قال فجعلت إذا أخذته سكرة من سكرات حرفته إلى القبلة فجعل يقول وهو يفأق: لم يأن لذلك بعد يا رجاء. حتى فعلت ذلك مرتين. فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال فحرفته ومات فلما أغمضته سجيته بقطيفة خضراء وأغلقت الباب وأرسلت إلي زوجته تنظر إليه كيف أصبح فقلت: نام وقد تغطى. فنظر الرسول إليه مغطى بالقطيفة فرجع فأخبرها فقبلت ذلك وظنت أنه نائم.

 

قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يريم حتى آتيه ولا يدخل على الخليفة أحدا. قال فخرجت فأرسلت إلى كعب بن حامز العنبسي فجمع أهل بيت أمير المؤمنين فاجتمعوا في مسجد دابق فقلت: بايعوا. قالوا: قد بايعنا مرة ونبايع أخرى! قلت: هذا أمير المؤمنين. بايعوا على ما أمر به ومن سمي في هذا الكتاب المختوم. فبايعوا الثانية رجلا رجلا.

 

قال رجاء: فلما بايعوا بعد موت سليمان رأيت أني قد أحكمت الأمر. قلت قوموا إلى صاحبكم فقد مات. قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقرأت عليهم الكتاب. فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام: لا نبايعه أبدا. قال قلت: أضرب والله عنقك. قم فبايع فقام يجر رجليه.

قال رجاء: وأخذت بضبعي عمر فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه وهشام يسترجع لما أخطأه. فلما انتهى هشام إلى عمر قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. أي حين صار هذا الأمر إليك على ولد عبد الملك. قال فقال عمر: نعم ف إنا لله وإنا إليه راجعون. حين صار إلي لكراهتي له. قال وغسل سليمان وكفن وصلى عليه عمر بن عبد العزيز.

 

قال رجاء: فلما فرغ من دفنه أتي بمراكب الخلافة البراذين والخيل والبغال ولكل دابة سائس فقال: ما هذا؟ فقالوا: مراكب الخلافة. فقال عمر: دابتي أوفق لي. فركب بغلته وصرفت تلك الدواب ثم أقبل فقيل: تنزل منزل الخلافة. فقال:

فيه عيال أبي أيوب وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا. فأقام في منزله حتى فرغوه بعد.

 

قال رجاء: فلما كان مسي ذلك اليوم قال: يا رجاء ادع لي كاتبا فدعوته وقد رأيت منه كل ما يسرني. صنع في المراكب ما صنع وفي منزل سليمان. فقلت فكيف يصنع الآن في الكتاب؟ أيضع نسخا أم ماذا؟ قال فلما جلس الكاتب أملى عليه كتابا واحدا من فيه إلى يد الكاتب بغير نسخة. فأملى أحس إملاء وأبلغه وأوجزه ثم أمر بذلك الكتاب فنسخ إلى كل بلد. وبلغ عبد العزيز بن الوليد. وكان غائبا. موت سليمان بن عبد الملك ولم يعلم بمبايعة الناس عمر وعهد سليمان إليه فبايع من معه لنفسه ثم أقبل يريد دمشق يأخذها فبلغه أن عمر بن عبد العزيز قد بايعوا له بعد سليمان بعهد من سليمان. فأقبل حتى دخل على عمر بن عبد العزيز.

فقال له عمر بن عبد العزيز: قد بلغني أنك كنت بايعت من قبلك وأردت دخول دمشق. فقال: قد كان ذلك. وذلك أنه لم يبلغني أن الخليفة كان عقد لأحد.

ففرقت على الأموال أن تنهب. فقال عمر: والله لو بويعت وقمت بالأمر ما نازعتك ذلك ولقعدت في بيتي. فقال عبد العزيز: ما أحب أنه ولي هذا الأمر غيرك. وبايع عمر بن عبد العزيز.

 

ما قاله العلماء عنه:

 

لم يُجمع العلماء على فضل أحد بعد عهد الخلفاء كما أجمعوا على عمر بن عبد العزيز ¬ فهو أعجوبة زمانه في فقهه وورعه وخوفه من الله وعدله بين رعيته فهو الأوحد من بني أمية من شابه جده فاروق الأمة عمر بن الخطاب ¢ وقد أكثر الفضلاء من أئمة زمانه من الثناء عليه كل هذا وما بلغت مدة خلافته الثلاث سنين! لعظيم ما وجد الناس من بركة عدله.

 

قال ابن عمر: يا ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر يملؤها عدلا، كما ملئت ظلما وجورا؟!

 

قال أنس ¢:ما صليت وراء إمام بعد رسول الله -- أشبه صلاة برسول الله من إمامكم هذا -يعني: عمر بن عبد العزيز-.

قال زيد: فكان عمر يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام والقعود.

قال أبو جعفر الباقر ¬: لكل قوم نجيبة، وإن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز، إنه يبعث أمة وحده.

 

عن الزهري قال أحمد: لا اعلمه الا رفعه قال: ما من أمة يعملون بطاعة الله فتأتي عليهم المائة وهم يعملون بطاعة الله إلا أكملوا مائة أخرى وإلا أهلكوا وأمروا وكان مما رحم الله هذه الأمة بخلافة عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه. وقال أيوب: لا نعلم أحدا ممن أدركنا كان آخذ من نبي الله منه.

 

وقال ميمون بن مهران: كان العلماء عنده تلامذة.

وقال الذهبي ¬: قد كان هذا الرجل حسن الخلق والخلق، كامل العقل، حسن السمت، جيد السياسة، حريصا على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، ظاهر الذكاء والفهم، أواها، منيبا، قانتا لله، حنيفا، زاهدا مع الخلافة، ناطقا بالحق مع قلة المعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذين ملوه وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أعطياتهم، وأخذه كثيرا مما في أيديهم مما أخذوه بغير حق، فما زالوا به حتى سقوه السم، فحصلت له الشهادة والسعادة، وعد عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين، والعلماء العاملين.

 

وعن إبراهيم بن ميسرة: قلت لطاووس: هو المهدي -يعني: عمر بن عبد العزيز-. قال: هو المهدي، وليس به، إنه لم يستكمل العدل كله.

وقال ابن عون: كان ابن سيرين إذا سئل عن الطلاء، قال: نهى عنه إمام هدى -يعني: عمر بن عبد العزيز-.

وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: الخلفاء خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز .

 وعن جعونة، قال: دخل رجل على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين، إن من قبلك كانت الخلافة لهم زينا، وأنت زين الخلافة. فأعرض عنه.

 

كمال عدله وورعه وزهده:

 

قال الليث: بدأ عمر بن عبد العزيز بأهل بيته، فأخذ ما بأيديهم، وسمى أموالهم مظالم، ففزعت بنو أمية إلى عمته فاطمة بنت مروان، فأرسلت إليه: إني قد عناني أمر.

 

فأتته ليلا، فأنزلها عن دابتها، فلما أخذت مجلسها، قال: يا عمة، أنت أولى بالكلام.

قالت: تكلم يا أمير المؤمنين.

 

قال: إن الله بعث محمدا -- رحمة، ولم يبعثه عذابا، واختار له ما عنده، فترك لهم نهرا، شربهم سواء، ثم قام أبو بكر، فترك النهر على حاله، ثم عمر، فعمل عمل صاحبه، ثم لم يزل النهر يشتق منه يزيد، ومروان، وعبد الملك، والوليد، وسليمان، حتى أفضى الأمر إلي، وقد يبس النهر الأعظم، ولن يروي أهله حتى يعود إلى ما كان عليه.

فقالت: حسبك، فلست بذاكرة لك شيئا. ورجعت، فأبلغتهم كلامه.

 

وعن عمر بن أسيد، قال: والله، ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون. فما يبرح يرجع بماله كله، قد أغنى عمر الناس.

 

دخلت فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز عليه: فإذا هو في مصلاه، يده على خده، سائلة دموعه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألشيء حدث؟

 

قال: يا فاطمة، إني تقلدت أمر أمة محمد -- فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم محمد -- فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي، فبكيت!

 

وعن ضمرة، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله: أما بعد، فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم، فاذكر قدرة الله -تعالى- عليك، ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك.

 

قال الأوزاعي: أن عمر بن عبد العزيز جلس في بيته، وعنده أشراف بني أمية، فقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم جندا من هذه الأجناد؟

فقال له رجل منهم: لم تعرض علينا ما لا تفعله؟

 

قال: ترون بساطي هذا، إني لأعلم أنه يصير إلى بلى، وإني أكره أن تدنسوه علي بأرجلكم، فكيف أوليكم ديني؟ وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم؟ هيهات هيهات.

قالوا: لم، أما لنا قرابة؟ أما لنا حق؟

قال: ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء، إلا رجل حبسه عني طول شقة.

 

عن حفص بن عمر بن أبي الزبير، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: أن أدق قلمك، وقارب بين أسطرك، فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به.

 

قال ميمون بن مهران: أقمت عند عمر بن عبد العزيز ستة أشهر، ما رأيته غير رداءه، كان يغسل من الجمعة إلى الجمعة، ويبين بشيء من زعفران.

وقال الأوزاعي: كان عمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يعاقب رجلا، حبسه ثلاثا، ثم عاقبه، كراهية أن يعجل في أول غضبه.

 

صلى عمر بن عبد العزيز بالناس الجمعة، ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه.

فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! إن الله قد أعطاك، فلو لبست!

فقال: أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة.

قال حماد بن واقد: سمعت مالك بن دينار يقول: الناس يقولون عني زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها.

عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: دعاني المنصور، فقال: كم كانت غلة عمر بن عبد العزيز حين استخلف؟

قلت: خمسون ألف دينار.

قال: كم كانت يوم موته؟

قلت: مائتا دينار.

وعن مسلمة بن عبد الملك، قال: دخلت على عمر وقميصه وسخ، فقلت لامرأته، وهي أخت مسلمة: اغسلوه.

قالت: نفعل. ثم عدت، فإذا القميص على حاله، فقلت لها، فقالت: والله ما له قميص غيره.

قال عمر بن عبد العزيز لامرأته: عندك درهم أشتري به عنبا؟

قالت: لا.

قال: فعندك فلوس؟

قالت: لا، أنت أمير المؤمنين ولا تقدر على درهم!

قال: هذا أهون

وقال عمرو بن مهاجر: أن عمر بن عبد العزيز كان تسرج عليه الشمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ، أطفأها، وأسرج عليه سراجه.

وقال مالك: أتي عمر بن عبد العزيز بعنبرة، فأمسك على أنفه؛ مخافة أن يجد ريحها.

وعنه: أنه سد أنفه، وقد أحضر مسك من الخزائن.

 

وكان لعمر ثلاث مائة حرسي وثلاث مائة شرطي، فشهدته يقول لحرسه: إن لي عنكم بالقدر حاجزا، وبالأجل حارسا، من أقام منكم، فله عشرة دنانير، ومن شاء، فليلحق بأهله.

 

وقال مغيرة: أنه لم يكن في الناس من هو أكثر صلاة وصياما من عمر بن عبد العزيز، وما رأيت أحدا أشد فرقا من ربه منه، كان إذا صلى العشاء، قعد في مسجده، ثم يرفع يديه، فلم يزل يبكي حتى تغلبه عينه، ثم ينتبه، فلا يزال يدعو رافعا يديه يبكي حتى تغلبه عينه، يفعل ذلك ليله أجمع.

 

وعن علي بن بذيمة قال: رأيته بالمدينة وهو أحسن الناس لباسا ومن أطيب الناس ريحا ومن أخيل الناس في مشيه. ثم رأيته بعد يمشي مشية الرهبان. فمن حدثك أن المشي سجية فلا تصدقه بعد عمر.

 

ومن شِعْره:

من كان حين تصيب الشمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشين والشعثا

ويألف الظل كي تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوما راغما جدثا

في قعر مظلمة غبراء موحشة ... يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا

تجهزي بجهاز تبلغين به ... يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا

 

ومما روي له:

ولا خير في عيش امرئ لم يكن له ... من الله في دار القرار نصيب

فإن تعجب الدنيا أناسا فإنها ... متاع قليل والزوال قريب

ومما روي له:

أيقظان أنت اليوم؟ أم أنت نائم؟ ... وكيف يطيق النوم حيران هائم؟

فلو كنت يقظان الغداة، لخرقت ... مدامع عينيك الدموع السواجم

تسر بما يبلى، وتفرح بالمنى ... كما اغتر باللذات في اليوم حالم

نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم

وسعيك فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم

 

وفاته وما حدث أثناءها:

 

عن مجاهد: قال لي عمر بن عبد العزيز: ما يقول فيّ الناس؟

قلت: يقولون: مسحور.

قال: ما أنا بمسحور.

ثم دعا غلاما له، فقال: ويحك! ما حملك على أن سقيتني السم؟

قال: ألف دينار أعطيتها، وعلى أن أعتق.

قال: هاتها.

فجاء بها، فألقاها في بيت المال، وقال: اذهب حيث لا يراك أحد.

وقال ابن عيينة: قلت لعبد العزيز بن عمر: ما آخر ما تكلم به أبوك؟

فقال: كان له من الولد: أنا، وعبد الله، وعاصم، وإبراهيم، وكنا أغيلمة، فجئنا كالمسلمين عليه، والمودعين له.

فقيل له: تركت ولدك ليس له مال، ولم تؤوهم إلى أحد!

فقال: ما كنت لأعطيهم ما ليس لهم، وما كنت لآخذ منهم حقا هو لهم، وإن وليي الله فيهم، الذي يتولى الصالحين، إنما هم أحد رجلين: صالح، أو فاسق.

و عن أيوب، قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتا، دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله --.

قال: والله لأن يعذبني الله بغير النار، أحب إلي من أن يعلم من قلبي أني أراني لذلك أهلا.

وعن ليث بن أبي رقية: أن عمر بن عبد العزيز، قال: أجلسوني.

فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني، فقصرت، ونهيتني، فعصيت - ثلاثا - ولكن لا إله إلا الله.

ثم أحد النظر، وقال: إني لأرى خضرة ما هم بإنس ولا جن. ثم قبض ¬.

قال يزيد: إن الوفد الذين بعثهم عمر بن عبد العزيز إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، قال: فلما بلغه قدومنا، تهيأ لنا، وأقام البطارقة على رأسه والنسطورية واليعقوبية ... ، إلى أن قال: فأتاني رسوله: أن أجب.

فركبت، ومضيت، فإذا أولئك قد تفرقوا عنه، وإذا البطارقة قد ذهبوا، ووضع التاج، ونزل عن السرير، فقال: أتدري لم بعثت إليك.

قلت: لا.

قال: إن صاحب مسلحتي كتب إلي: أن الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز مات.

قال: فبكيت، واشتد بكائي، وارتفع صوتي.

فقال لي: ما يبكيك؟! ألنفسك تبكي، أم له، أم لأهل دينك؟

قلت: لكل أبكي.

قال: فابك لنفسك، ولأهل دينك، فأما عمر، فلا تبك له، فإن الله لم يكن ليجمع عليه خوف الدنيا وخوف الآخرة.

ثم قال: ما عجبت لهذا الراهب الذي تعبد في صومعته وترك الدنيا، ولكن عجبت لمن أتته الدنيا منقادة، حتى صارت في يده، ثم خلى عنها.

 


 

 

+++

 

 

 

 

 

 

 

محمد بن ادريس الشافعي ¬([3])

قال أحمد بن حنبل ¬: إن الله تعالى يقيض للناس في كل رأس مائة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله الكذب. فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين الشافعي.

 

وقال الامام السبكي ¬: واتفق الناس على أن المبعوث على رأس الأولى عمر بن عبد العزيز وعلى الثانية الشافعي ويأبى الله أن يبعث مخطئا في اجتهاده أو يختص ناقص المرتبة بهذه المزية بل هذا صريح في أن ما يأتي به المبعوث فهو دين الله الذي شرعه لعباده ومن الغرائب الواقعة في هذا الأمر المؤيدة لما ذكرناه وما حاولناه تأييدا ينثلج به الصدر أن الله تعالى خص أصحاب الشافعي بهذه الفضيلة.

 

وقال البيهقي ¬: وقد قابلت بتوفيق الله تعالى أقوال كل واحد منهم بمبلغ علمي من كتاب الله ¸ , ثم بما جمعت من السنن والآثار في الفرائض والنوافل والحلال والحرام والحدود والأحكام , فوجدت الشافعي ¬ أكثرهم اتباعا وأقواهم احتجاجا وأصحهم قياسا وأوضحهم إرشادا. وذلك فيما صنف من الكتب القديمة والجديدة في الأصول والفروع وبأبين بيان وأفصح لسان.

وكيف لا يكون كذلك وقد تبحر أولا في لسان من ختم الله النبوة به وأنزل به القرآن مع كونه عربي اللسان قرشي الدار والنسب من خير قبائل العرب من نسل هاشم والمطلب.

 

ثم اجتهد في حفظ كتاب الله ¸ وسنة نبيه وآثار الصحابة وأقوالهم وأقوال من بعدهم في أحكام الله ¸ حتى عرف الخاص من العام , والمفسر من المجمل , والفرض من الأدب , والحتم من الندب , واللازم من الإباحة , والناسخ من المنسوخ , والقوي من الأخبار من الضعيف , والشاذ منها من المعروف , والإجماع من الاختلاف.

 

ثم شبه الفرع المختلف فيه بالأصل المتفق عليه من غير مناقضة منه للبناء الذي أسسه ولا مخالفة منه للأصل الذي أصله , فخرجت بحمد الله ونعمته أقواله مستقيمة وفتاويه صحيحة. انتهى.

 

نسبه ومولده وصفته:

 

محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هشام بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، الإمام، عالم العصر، ناصر الحديث، فقيه الملة، أبو عبد الله القرشي، ثم المطلبي، الشافعي، المكي، الغزي المولد، نسيب رسول الله -- وابن عمه، -فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب-.

الإمام الكامل العالم العامل ذو الشرف المنيف، والخلق الظريف، له السخاء والكرم، وهو الضياء في الظلم، أوضح المشكلات، وأفصح عن المعضلات، المنتشر علمه شرقا وغربا، المستفيض مذهبه برا وبحرا، المتبع للسنن والآثار، والمقتدي بما اجتمع عليه المهاجرون والأنصار، اقتبس عن الأئمة الأخيار، فحدث عنه الأئمة الأحبار. حاز المرتبة العالية، وفاز بالمنقبة السامية؛ إذ المناقب والمراتب يستحقها من له الدين والحسب. وقد ظفر الشافعي ¬ تعالى بهما جميعا، شرف العلم العمل به، وشرف الحسب قربه من رسول الله ، فشرفه في العلم ما خصه الله تعالى به من تصرفه في وجوه العلم، وتبسطه في فنون الحكم، فاستنبط خفيات المعاني، وشرح بفهمه الأصول والمباني، ونال ذلك بما يخص الله تعالى به قريشا من نبل الرأي.

 

ولد الشافعي بغزة من بلاد الشام، وقيل باليمن، في سنة خمسين ومائة، ونشأ بمكة، وكتب العلم بها، وبمدينة الرسول وقدم بغداد مرتين، وحدث بها، وخرج إلى مصر فنزلها إلى حين وفاته. ومات في آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، عاش أربعا وخمسين سنة.

 

و كان الشافعي جسيما، طوالا، نبيلا، يخضب رأسه ولحيته.

وقال المزني: ما رأيت أحسن وجها من الشافعي -¬-! وكان ربما قبض على لحيته، فلا يفضل عن قبضته.

رؤى رؤيت له ورآها:

 

عن ابن عبد الحكم، قال: لما أن حملت أم الشافعي به رأت كأن المشترى خرج من فرجها حتى انقض بمصر ثم وقع في كل بلد منه شظية، فتأول أصحاب الرؤيا أنه يخرج عالم يخص علمه أهل مصر، ثم يتفرق في سائر البلدان.

 

وعن الربيع بن سليمان، قال رأيت الشافعي بعد وفاته في المنام فقلت: يا أبا عبد الله ما صنع الله بك؟ قال أجلسني على كرسي من ذهب ونثر علي اللؤلؤ الرطب.

 

وقال المزني: سمعت الشافعي، يقول: رأيت علي بن أبي طالب في النوم، فسلم علي وصافحني وخلع خاتمه فجعله في إصبعي، وكان لي عم ففسرها لي فقال لي: أما مصافحتك لعلي فأمان من العذاب، وأما خلع خاتمه فجعله في إصبعك فسيبلغ اسمك ما بلغ اسم علي في الشرق والغرب.

 

وقال المزني: رأيت النبي في المنام، فسألته عن الشافعي، فقال لي: " من أراد محبتي وسنتي فعليه بمحمد بن إدريس الشافعي المطلبي فإنه مني وأنا منه "

 

 

ما قاله العلماء عنه:

 

عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: قلت لأبي: يا أبة، أي رجل كان الشافعي فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ فقال لي: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف، أو منهما عوض؟

 

وقال أبو عبيد: ما رأيت رجلا أعقل من الشافعي.

وقال ابن خزيمة: وهل كان ابن حنبل إلا غلاما من غلمان الشافعي.

وقال زكريا الساجي: قلت لأبي داود: من أصحاب الشافعي؟

فقال: أولهم: الحميدي، وأحمد بن حنبل، والبويطي.

 

وقال إبراهيم بن محمد الكوفي - وكان من الإسلام بمكان - قال: رأيت الشافعي بمكة يفتي الناس، ورأيت أحمد، وإسحاق حاضرين.

 

وقال أبو ثور: من زعم أنه رأى مثل محمد بن إدريس في علمه وفصاحته ومعرفته وثباته وتمكنه فقد كذب، كان محمد بن إدريس الشافعي منقطع القرين في حياته، فلما مضى لسبيله لم يعتض منه.

 

و كان الحميدي إذا جرى عنده ذكر الشافعي، يقول: حدثنا سيد الفقهاء الشافعي.

 

وقال عبد الملك بن محمد في قوله : " فإن عالمها يملأ الأرض علما، ويملأ طباق الأرض "، علامة بينة للمميز أن المراد بذلك رجل من علماء هذه الأمة من قريش قد ظهر علمه وانتشر في البلاد، وكتبوا تآليفه كما تكتب المصاحف، استظهروا أقواله، وهذه صفة لا نعلمها قد أحاطت إلا بالشافعي، إذ كان كل واحد من قريش من علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإن كان علمه قد ظهر وانتشر، فإنه لم يبلغ مبلغا يقع تأويل هذه الرواية عليه، إذ كان لكل واحد منهم نتف وقطع من العلم ومسيئلات، وليس في كل بلد من بلاد المسلمين مدرس ومفتي ومصنف يصنف على مذهب قرشي إلا على مذهبه، فعلم أنه يعنيه لا غيره، وهو الذي شرح الأصول والفروع وازدادت على مر الأيام حسنا وبيانا.

 

وسئل أبو ثور، فقيل له: أيما أفقه الشافعي أو محمد بن الحسن؟ فقال أبو ثور: الشافعي أفقه من محمد، وأبي يوسف، وأبي حنيفة، وحماد، وإبراهيم، وعلقمة، والأسود.

 

وعن أحمد بن حنبل، قال: هذا الذي ترون كله أو عامته من الشافعي، وما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعوا الله للشافعي واستغفر له.

 

وقال حسين بن علي يعني الكرابيسي: بت مع الشافعي غير ليلة فكان يصلي نحو ثلث الليل فما رايته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ منها، وسأل النجاة لنفسه ولجميع المسلمين. قال: فكأنما جمع له الرجاء والرهبة جميعا.

 

وقال بحر بن نصر: كنا إذا أردنا أن نبكي قلنا بعضنا لبعض: قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبي يقرأ القرآن فإذا أتيناه استفتح القرآن حتى يتساقط الناس بين يديه ويكثر عجيجهم بالبكاء، فإذا رأى ذلك أمسك عن القراءة، من حسن صوته.

وقال الربيع بن سليمان: كان الشافعي يفتي وله خمس عشرة سنة، وكان يحيي الليل إلى أن مات.

وقال: عبد الرحمن بن مهدي: ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها.

 

وعن إبراهيم الحربي، أنه قال: قال أستاذ الأستاذين.

قالوا: من هو؟ قال: الشافعي، أليس هو أستاذ أحمد بن حنبل؟.

 

وقال أبو الفضل الزجاج: لما قدم الشافعي إلى بغداد وكان في الجامع إما نيف وأربعون حلقة أو خمسون حلقة، فلما دخل بغداد ما زال يقعد في حلقة حلقة ويقول لهم: قال الله وقال الرسول.

وهم يقولون: قال أصحابنا.

حتى ما بقي في المسجد حلقة غيره.

 

وقال يحيى بن معين: كان أحمد بن حنبل ينهانا عن الشافعي، ثم استقبلته يوما والشافعي راكب بغلة وهو يمشي خلفه، فقلت: يا أبا عبد الله، تنهانا عنه وتمشي خلفه فقال: اسكت، لو لزمت البغلة انتفعت.

 

وقال محفوظ بن أبي توبة البغدادي: رأيت أحمد بن حنبل عند الشافعي في المسجد الحرام، فقلت: يا أبا عبد الله، هذا سفيان بن عيينة في ناحية المسجد يحدث، فقال: إن هذا يفوت وذاك لا يفوت.

 

وقال أحمد بن حنبل: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منّة.

وقال أبو حسان الزيادي: ما رأيت محمد بن الحسن يعظم أحدا من أهل العلم تعظيمه للشافعي، ولقد جاءه يوما فلقيه وقد ركب محمد بن الحسن، فرجع محمد إلى منزله وخلا به يومه إلى الليل، ولم يأذن لأحد عليه.

وقيل: يا أبا محمد، مات محمد بن إدريس، فقال ابن عيينة: إن كان مات، فقد مات أفضل أهل زمانه

 

وقال: أبو عبيد كان يأتينا ها هنا كثيرا، وكان رجلا إذا ساعدته الكتب، كان حسن التصنيف من الكتب، وكان يرتبها بحسن ألفاظه، لاقتداره على العربية، وأما الشافعي، فقد كنا عند محمد بن الحسن كثيرا في المناظرة، وكان رجلا قرشي العقل، والفهم، والذهن، صافي العقل والفهم والدماغ، سريع الإصابة - أو كلمة نحوها - ولو كان أكثر سماعا للحديث، لاستغنى أمة محمد -- به، عن غيره من الفقهاء.

 

وقال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة.

 

وكان الشافعي كثير المناقب جم المفاخر منقطع القرين، اجتمعت فيه من العلوم بكتاب الله وسنة الرسول ، وكلام الصحابة وآثارهم، واختلاف أقاويل العلماء وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة والعربية والشعر حتى إن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذليين ما لم يجتمع في غيره، حتى قال أحمد بن حنبل ¢: ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه حتى جالست الشافعي.

 

وقال أبو داود السجستاني: ما أعلم للشافعي حديثا خطأ.

قال الذهبي: هذا من أدل شيء على أنه ثقة، حجة، حافظ، وناهيك بقول مثل هذين.

 

وقد اتفق العلماء قاطبة من أهل الحديث والفقه والأصول واللغة والنحو وغير ذلك على ثقته وأمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نفسه وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه.

 

 

خوف أهل البدع منه:

حج بشر المريسي فرجع، فقال لأصحابه: رأيت شابا من قريش بمكة ما أخاف على مذهبنا إلا منه، يعني الشافعي.

وقال: لقد رأيت بالحجاز رجلا، ما رأيت مثله سائلا ولا مجيبا، يعني الشافعي.

 

قال الشافعي ¬:

 

أقمت في بطون العرب عشرين سنة آخذ أشعارها ولغاتها، وحفظت القرآن، فما علمت أنه مر بي حرف إلا وقد علمت المعنى فيه، والمراد ما خلا حرفين.

وسميت ببغداد ناصر الحديث.

 وقال الشافعي: قدمت على مالك بن أنس وقد حفظت الموطأ فقال لي: أحضر من يقرأ لك، فقلت: أنا قارئ، فقرأت عليه الموطأ حفظا، فقال: إن يك أحد يفلح فهذا الغلام.

 

وقال: كنت يتيما في حجر أمي، ولم يكن لها ما تعطيني للمعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أقوم على الصبيان إذا غاب، وأخفف عنه.

 

وقال: كنت أكتب في الأكتاف والعظام، وكنت أذهب إلى الديوان، فأستوهب الظهور، فأكتب فيها.

وحفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت (الموطأ) وأنا ابن عشر.

 وقال: من تعلم القرآن، عظمت قيمته، ومن تكلم في الفقه، نما قدره، ومن كتب الحديث، قويت حجته، ومن نظر في اللغة، رق طبعه، ومن نظر في الحساب، جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه، لم ينفعه علمه.

 

وقال: أصل العلم: التثبيت.

وثمرته: السلامة.

وأصل الورع: القناعة.

وثمرته: الراحة.

وأصل الصبر: الحزم.

وثمرته: الظفر.

وأصل العمل: التوفيق.

وثمرته: النجح.

وغاية كل أمر: الصدق

 

وعن الشافعي، قال: ما رفعت من أحد فوق منزلته، إلا وضع مني بمقدار ما رفعت منه.

وعنه: ضياع العالم أن يكون بلا إخوان، وضياع الجاهل قلة عقله، وأضيع منهما من واخى من لا عقل له.

وعنه: إذا خفت على عملك العجب، فاذكر رضى من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب، فمن فكر في ذلك، صغر عنده عمله.

وقال: آلات الرياسة خمس: صدق اللهجة، وكتمان السر، والوفاء بالعهد، وابتداء النصيحة، وأداء الأمانة.

 

وقال: من استغضب فلم يغضب، فهو حمار، ومن استرضي فلم يرض، فهو شيطان.

 

قوله في الصفات:

 

وقال شيخ الإسلام علي بن أحمد بن يوسف الهكاري، في كتاب (عقيدة الشافعي) له: أخبرنا أبو يعلى الخليل بن عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو القاسم بن علقمة الأبهري، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا يونس بن عبد الأعلى، سمعت أبا عبد الله الشافعي يقول - وقد سئل عن صفات الله -تعالى- وما يؤمن به - فقال: لله أسماء وصفات، جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه -- أمته، لا يسع أحدا قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله -- القول بها، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه، فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة، فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالروية والفكر، ولا نكفر بالجهل بها أحدا، إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، ونثبت هذه الصفات، وننفي عنها التشبيه، كما نفاه عن نفسه، فقال: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ [الشورى: 11] .

 

 

دقت نظر الشافعي ¬:

عن عمرو بن سواد، قال: قال لي الشافعي: ولدت بعسقلان، فلما أتى على سنتان حملتني أمي إلى مكة، وكانت نهمتي في شيئين، في الرمي وطلب العلم، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة، وسكت عن العلم. فقلت له: أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي.

 

وفاته ¬:

 

عن المزني، قال: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت: يا أبا عبد الله! كيف أصبحت؟

فرفع رأسه، وقال: أصبحت من الدنيا راحلا، ولإخواني مفارقا، ولسوء عملي ملاقيا، وعلى الله واردا، ما أدري روحي تصير إلى جنة فأهنيها، أو إلى نار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي دون عفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما

فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منة وتكرما

فإن تنتقم مني فلست بآيس ... ولو دخلت نفسي بجرمي جهنما

ولولاك لم يغوى بإبليس عابد ... فكيف وقد أغوى صفيك آدما

وإني لآتي الذنب أعرف قدره ... وأعلم أن الله يعفو ترحما

 

ومات يوم الخميس، وانصرفنا من جنازته ليلة الجمعة، فرأينا هلال شعبان سنة أربع ومائتين، وله نيف وخمسون سنة


 

 

 

+++

أبو الحسن الأشعري ¬([4])

 

قال الحافظ ابن عساكر ¬: وذكر غير الفقيه أبي الحسن أن أبا العباس أحمد بن عمر بن سريج الفقيه هو الذي كان على رأس الثلثمائة وأن أبا الطيب سهل بن محمد بن سليمان الصعلوكي النيسابوري هو الذي كان على رأس الأربعمائة وقول من قال إنه أبو الحسن الأشعري أصوب لأن قيامه بنصرة السنة إلى تجديد الدين أقرب فهو الذي انتدب للرد على المعتزلة وسائر أصناف المبتدعة المضللة وحالته في ذلك مشتهرة وكتبه في الرد عليهم منتشرة فأما أبو العباس بن سريج فكان فقيها مضطلعا بعلم أصول الفقه وفروعه نبيها.

 

وقال أيضا: وسمعت الشيخ الإمام أبا الحسن علي بن المسلم بن محمد بن علي بن الفتح بن علي السلمي على كرسيه بجامع دمشق يقول وذكر حديث أبي علقمة هذا فقال كان على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز وكان على رأس المائة الثانية محمد بن إدريس الشافعي وكان على رأس المائة الثالثة الأشعري.

 

 

 

نسبه ومولده ونشأته:

 

هو علي بن إسماعيل بن أبي بشر واسمه إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى أبو الحسن الأشعري المتكلم صاحب الكتب، والتصانيف في الرد على الملاحدة، وسائر أصناف المبتدعة.

 

وهو بصري سكن بغداد إلى أن توفي بها، وكان يجلس أيام الجمعات في حلقة أبي إسحاق المروزي الفقيه من جامع المنصور.

 

 

ما قاله العلماء عنه:

قال الحافظ ابن عساكر ¬: فكان الأشعري ¬ورضوانه أشدهم بذلك اهتماما وألدهم لمن حاول الإلحاد في أسماء الله وصفاته خصاما وأمدهم سنانا لمن عاند السنة وأحدهم حساما وأمضاهم جنانا عند وقوع المحنة وأصعبهم مراما ألزم الحجة لمن خالف السنة والمحجة إلزاما فلم يسرف في التعطيل ولم يغل في التشبيه وابتغى بين ذلك قواما وألهمه الله نصرة السنة بحجج العقول حتى انتظم شمل أهلها به انتظاما وقسم الموجودات من المحدثات أعراضا وجواهر وأجساما وأثبتت لله سبحانه ما أثبته لنفسه من السماء والصفات إعظاما ونفى عنه ما لا يليق بجلاله من شبه خلقه إجلالا له وإكراما ونزهه عن سمات الحدث تغيرا وانتقالا وإدبارا وإقبالا وأعضاء وأجراما وائتم به من وفقه الله إتباع الحق في التمسك بالسنة ائتماما فلما انتقم من أصناف أهل البدع بإيضاح الحجج والأدلة انتقاما ووجدوه لدى الحجاج في تبيين الاحتجاج عليهم فيما ابتدعوه هماما قالوا فيه حسدا من البهتان ما لا يجوز لمسلم أن ينطق به استعظاما وقذفوه بنحو ما قذفت به اليهود عبد الله بن سلام وأباه سلاما فلم ينقصوه بذلك عند أهل التحقيق بل زادوه بما قالوا فيه تماما ومدحوه بنفس ذمهم وقد قيل في المثل لن تعدم الحسناء ذاما وقلما انفك عصر من الأعصار من غاو يقدح في الدين ويغوي إبهاما وغاو يجرح بلسانه أئمة المسلمين ويعوي إيهاما ويستزل من العامة طوائف جهالا وزعانف أغتاما ويحمل بجهله على سب العلماء والتشنيع عليهم سفهاء..

 

وقدر أبي الحسن ¬عما يرمونه به أعلى وذكر فضائله والترحم عليه من الانتقاص له عند العلماء أولى ومحله عند فقهاء الأمصار في جميع الأقطار مشهور وهو بالتبريز على من عاصره من أهل صناعته في العلم مذكور موصوف بالدين والرجاجة والنبل ومعروف بشرف الأبوة والأصل وكلامه في حدث العالم ميراث له عن آبائه وأجداده وتلك رتبة ورثها أبو موسى الأشعري ¢ لأولاده

وتصانيفه بين أهل العلم مشهورة معروفة وبالإجادة والإصابة للتحقيق عند المحققين موصوفة ومن وقف على كتابه المسمى بالإبانة عرف موضعه من العلم والديانة ومن عرف كتابه الذي ألفه في تفسير القرآن والرد على من خالف البيان من أهل الإفك والبهتان علم كونه من ذوي الاتباع والاستقامة واستحقاقه التقدم في الفضل والإمامة.

 

قال أبو بكر ابن الصيرفي: كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم، حتى أظهر الله تعالى الأشعري، فجحرهم في أقماع السمسم!

 

وعن ابن الباقلاني قال: أفضل أحوالي أن أفهم كلام الأشعري.

 

وقال الذهبي ¬: ولأبي الحسن ذكاء مفرط، وتبحر في العلم، وله أشياء حسنة، وتصانيف جمة تقضي له بسعة العلم.

وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراينى كنت فى جنب الشيخ أبى الحسن الباهلى كقطرة فى جنب البحر وسمعت الباهلى يقول كنت فى جنب الأشعرى كقطرة فى جنب البحر.

 

وقال ابن السبكي ¬: شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى، الشيخ أبو الحسن الأشعرى البصرى: شيخ طريقة أهل السنة والجماعة وإمام المتكلمين وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدين والساعى فى حفظ عقائد المسلمين سعيا يبقى أثره إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين إمام حبر وتقى بر حمى جناب الشرع من الحديث المفترى وقام فى نصره ملة الإسلام فنصرها نصرا مؤزرا:

(بهمة فى الثريا إثر أخمصها ... وعزمة ليس من عاداتها السأم)

وما برح يدلج ويسير وينهض بساعد التشمير حتى نقى الصدور من الشبه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ووقى بأنوار اليقين من الوقوع فى ورطات ما التبس وقال فلم يترك مقالا لقائل وأزاح الأباطيل والحق يدفع ترهات الباطل.

 

وقال الإمام أبا سهل الصعلوكى أو الشيخ الإمام أبا بكر الإسماعيلى والشك منى يقول أعاد الله تعالى هذا الدين بعد ما ذهب يعنى أكثره بأحمد ابن حنبل وأبى الحسن الأشعرى وأبى نعيم الإستراباذى.

 

وكتب استفتاء فيما يتعلق بحال الشيخ فكان جواب القشيرى ما نصه بسم الله الرحمن الرحيم اتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن على بن إسماعيل الأشعرى كان إماما من أئمة أصحاب الحديث ومذهبه مذهب أصحاب الحديث تكلم فى أصول الديانات على طريقة أهل السنة ورد على المخالفين من أهل الزيغ والبدعة ومن طعن فيه أو قدح أو لعنه أو سبه فقد بسط لسان السوء فى جميع أهل السنة بذلنا خطوطنا طائعين بذلك فى هذا الدرج فى ذى القعدة سنة ست وثلاثين وأربعمائة.

 

استفتاء آخر ببغداد: ما قول السادة الأئمة الجلة في قوم اجتمعوا على لعن فرقة الأشعرى وتكفيرهم ما الذى يجب عليهم فأجاب قاضى القضاة أبو عبد الله الدامغانى الحنفى قد ابتدع وارتكب ما لا يجوز وعلى الناظر فى الأمور أعز الله أنصاره الإنكار عليه وتأديبه بما يرتدع به هو وأمثاله عن ارتكاب مثله وكتب محمد بن على الدامغانى.

 

وقال البيهقى فى ذكر ترجمة الشيخ وذكر نسبه ثم قال إلى أن بلغت النوبة إلى شيخنا أبى الحسن الأشعري ¬ فلم يحدث فى دين الله حدثا ولم يأت فيه ببدعة بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة فى أصول الدين فنصرها بزيادة شرح وتبيين وأن ما قالوا وجاء به الشرع فى الأصول صحيح فى العقول بخلاف ما زعم أهل الأهواء من أن بعضه لا يستقيم فى الآراء فكان فى بيانه وثبوته ما لم يدل عليه أهل السنة والجماعة ونصرة أقاويل من مضى من الأئمة كأبى حنيفة وسفيان الثورى من أهل الكوفة والأوزاعى وغيره من أهل الشام

ومالك والشافعى من أهل الحرمين ومن نحا نحوهما من أهل الحجاز وغيرها من سائر البلاد وكأحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث والليث بن سعد وغيره وأبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى وأبى الحسين مسلم بن الحجاج النيسابورى إمامى أهل الآثار وحفاظ السنن التى عليها مدار الشرع إلى أن قال وصار رأسا فى العلم من أهل السنة فى قديم الدهر وحديثه.

 

وقال ابن رجب الحنبلي ¬: وكذلك ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه المسمى بـ - الإبانة -، وهو من أجل كتبه، وعليه يعتمد العلماء وينقلون منه، كالبيهقي وأبي عثمان الصابوني وأبي القاسم ابن عساكر وغيرهم.

 

وقال ابن حجر ¬: والأهواء المنكرة هي الاعتقادات الفاسدة المخالفة لما عليه إمام أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري..

 

وقال عنه الذهبي: قال الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري البصري المتكلم في كتابه الذي سماه إختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين..

 

 

توبته من بدعة الاعتزال:

قال الذهبي ¬: وكان عجبا في الذكاء، وقوة الفهم. ولما برع في معرفة الاعتزال، كرهه وتبرأ منه، وصعد للناس، فتاب إلى الله تعالى منه، ثم أخذ يرد على المعتزلة، ويهتك عوارهم.

 

وذكر ابن السبكي عنه: أنه كان أولا قد أخذ عن أبى على الجبائى وتبعه فى الاعتزال، يقال أقام على الاعتزال أربعين سنة حتى صار للمعتزلة إماما فلما أراده الله لنصر دينه وشرح صدره لاتباع الحق غاب عن الناس فى بيته خمسة عشر يوما ثم خرج إلى الجامع وصعد المنبر وقال معاشر الناس إنما تغيبت عنكم هذه المدة لأنى نظرت فتكافأت عندى الأدلة ولم يترجع عندى شيء على شيء فاستهديت الله تعالى فهداني الى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده كما انخلعت من ثوبي هذا وانخلع من ثوب كان عليه ورمى به ودفع الكتب التى ألفها على مذاهب أهل السنة إلى الناس.

 

رؤيته لرسول الله محمد :

 

كان بدء رجوع الإمام المبرأ من الزيغ والتضليل أبي الحسن علي بن إسماعيل أنه قال بينا أنا نائم في العشر الأول من شهر رمضان رأيت المصطفى فقال يا علي انصر المذاهب المروية عني فإنها الحق فلما استيقظت دخل علي أمر عظيم ولم أزل مفكرا مهموما لرؤياي ولما أنا عليه من إيضاح الأدلة في خلاف ذلك حتى كان العشر الأوسط فرأيت النبي في المنام فقال لي ما فعلت فيما أمرتك به فقلت يارسول الله وما عسى أن أفعل وقد خرجت للمذاهب المروية عنك وجوها يحتملها الكلام واتبعت الأدلة الصحيحة التي يجوز إطلاقها على الباري ¸ فقال لي انصر المذاهب المروية عني فإنها الحق فاستيقظت وأنا شديد الأسف والحزن فأجمعت على ترك الكلام واتبعت الحديث وتلاوة القرآن فلما كانت ليلة سبع وعشرين وفي عادتنا بالبصرة أن يجتمع القراء وأهل العلم والفضل فيختمون القرآن في تلك الليلة مكثت فيهم على ما جرت عادتنا فأخذني من النعاس ما لم أتمالك معه أن قمت فلما وصلت إلى البيت نمت وبي من الأسف على ما فاتني من ختم تلك الليلة أمر عظيم فرأيت النبي فقال لي ما صنعت فيما أمرتك به فقلت قد تركت الكلام ولزمت كتاب الله وسنتك فقال لي انا أمرتك بترك الكلام إنما أمرتك بنصرة المذاهب المروية عني فإنها الحق فقلت يارسول الله كيف أدع مذهبا تصورت مسائله وعرفت أدلته منذ ثلاثين سنة لرؤية فقال لي لولا أني أعلم أن الله تعالى يمدك بمدد من عنده لما قمت عنك حتى أبين لك وجوهها وكأنك تعد إتياني إليك هذا رؤيا أو رؤياي جبريل كانت رؤيا إنك لا تراني في هذا المعني بعدها فجد فيه فإن الله سيمدك بمدد من عنده قال فاستيقظت وقلت ما بعد الحق إلا الضلال وأخذت في نصرة الأحاديث في الرؤية والشفاعة والنظر وغير ذلك فكان يأتيني شيء والله ما سمعته من خصم قط ولا رأيته في كتاب فعلمت أن ذلك من مدد الله تعالى الذي بشرني به رسول الله .

 

قال فلما دخلنا في العشر الثالث رأيته ليلة القدر فقال لي وهو كالحردان ما عملت فيما قلت لك فقلت يارسول الله أنا متفكر فيما قلت ولا أدع التفكر والبحث عليها إلا أني قد رفضت الكلام كله وأعرضت عنه واشتغلت بعلوم الشريعة فقال لي مغضبا ومن الذي أمرك بذلك صنف وانظر هذه الطريقة التي أمرتك بها فإنها ديني وهو الحق الذي جئت به وانتبهت قال لي أبو الحسن فأخذت في التصانيف والنصرة وأظهرت المذهب فهذا سبب رجوعه عن مذاهب المعتزلة إلى مذاهب أهل السنة والجماعة ¬ورضوانه.

 

عبادته وزهده:

قالوا وكان الشيخ رضى الله عنه سيدا في التصوف واعتبار القلوب كما هو سيد في علم الكلام وأصناف العلوم.

 

وأما اجتهاد الشيخ في العبادة والتأله فأمر غريب: ذكر من صحبه أنه مكث عشرين سنة يصلى الصبح بوضوء العتمة وكان يأكل من غلة قرية وقفها جده بلال بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعري على نسله.

 

قال وكانت نفقته في كل سنة سبعة عشر درهما كل شهر درهم وشيء يسير

واعلم أنا لو أردنا استيعاب مناقب الشيخ لضاقت بنا الأوراق وكلت الأقلام ومن أراد معرفة قدره وأن يمتلىء قلبه من حبه فعليه بكتاب تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبى الحسن الأشعرى الذى صنفه الحافظ ابن عساكر وهو من أجل الكتب وأعظمها فائدة وأحسنها، فيقال كل سنى لا يكون عنده كتاب التبيين لابن عساكر فليس من أمر نفسه على بصيرة.

 

ذكر تصانيف الشيخ رضى الله عنه:

ذكر أبو محمد بن حزم أنها بلغت خمسا وخمسين مصنفا ورد ابن عساكر هذا القول وقال قد ترك من عدد مصنفاته أكثر من النصف وذكر أبو بكر بن فورك مسميات تزيد على الضعف انتهى.

 

 

هل الاشعري اخترع مذهبا؟

قال ابن السبكي: اعلم أن أبا الحسن لم يبدع رأيا ولم ينش مذهبا وإنما هو مقرر لمذاهب السلف مناضل عما كانت عليه صحابة رسول الله فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقا وتمسك به وأقام الحجج والبراهين عليه فصار المقتدى به في ذلك..

 

وقد ذكر الشيخ شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام أن عقيدته اجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة ووافقه على ذلك من أهل عصره شيخ المالكية فى زمانه أبو عمرو بن الحاجب وشيخ الحنفية جمال الدين الحصيرى..

 

وقال المآيرقى ولم يكن أبو الحسن أول متكلم بلسان أهل السنة إنما جرى على سنن غيره وعلى نصرة مذهب معروف فزاد المذهب حجة وبيانا ولم يبتدع مقالة اخترعها ولا مذهبا انفرد به ألا ترى أن مذهب أهل المدينة نسب إلى مالك ومن كان على مذهب أهل المدينة يقال له مالكى ومالك إنما جرى على سنن من كان قبله وكان كثير الاتباع لهم إلا أنه لما زاد المذهب بيانا وبسطا عزى إليه كذلك أبو الحسن الأشعرى لا فرق ليس له فى مذهب السلف أكثر من بسطه وشرحه وتواليفه فى نصرته.. إلى أن قال لقد مات الأشعرى يوم مات وأهل السنة باكون عليه وأهل البدع مستريحون منه.

 

وفاته ¬:

 

ذكر أبو القاسم عبد الواحد بن علي الأسدي أن الأشعري مات ببغداد بعد سنة عشرين، وقبل سنة ثلاثين وثلاث مائة، ودفن في مشرعة الروايا، في تربة إلى جانبها مسجد، وبالقرب منها حمام، وهي عن يسار المار من السوق إلى دجلة.

 

 


 

 

 

+++

 

 

 

 

 

أبو حامد الإسفراييني ¬([5])

 

قال الطيبي ¬: وفي الرابعة –من المجددين- من أولى الأمر القادر بالله، ومن الفقهاء أبو حامد الإسفراييني الشافعي.

 

نسبه ومولده:

 

الأستاذ العلامة، شيخ الإسلام، أبو حامد، أحمد ابن أبي طاهر محمد بن أحمد الإسفراييني، شيخ الشافعية ببغداد.

ولد سنة أربع وأربعين وثلاث مائة. وقدم بغداد وله عشرون سنة.

 

ما قاله العلماء عنه:

 

قال الخطيب ¬: قدم بغداد، وهو حدث، فدرس فقه الشافعي على أبي الحسن بن المرزبان، ثم على أبي القاسم الداركي، وأقام ببغداد مشغولا بالعلم حتى صار أوحد وقته، وانتهت إليه الرياسة، وعظم جاهه عند الملوك والعوام .. وكان ثقة.

وقد رأيته غير مرة، وحضرت تدريسه في مسجد عبد الله بن المبارك، وهو المسجد الذي في صدر قطيعة الربيع، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر درسه سبع مائة متفقه، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به.

 

وقال الخطيب: وحدثني أبو إسحاق الشيرازي قال: سألت القاضي أبا عبد الله الصيمري: من أنظر من رأيت من الفقهاء؟ فقال: أبو حامد الإسفراييني.

 

وقال ابن الصلاح: وعلى الشيخ أبي حامد تأول بعض العلماء حديث: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، فكان الشافعي على رأس المائةين، وابن سريج على رأس الثلاث مائة، وأبو حامد على رأس الأربع مائة.

 

وقال ابن كثير ¬: شيخ الشافعية بلا مدافعة.. وأخذ عنه الفقهاء، والأئمة ببغداد، وكان من مشاهيرهم: القاضي أبو الطيب الطبري، والماوردي، والمحاملي، والفقيه سليم بن أيوب الرازي، والشيخ أبو علي السنجي، وشرح المختصر في تعليقته، التي هي في خمسين مجلدا، ذكر فيها خلاف العلماء، وأقوالهم، ومآخذهم، ومناظراتهم، حتى كان يقال له: الشافعي الثاني، قال الشيخ أبو إسحاق في الطبقات: انتهت إليه رياسة الدين، والدنيا ببغداد.

 

وقال الذهبي ¬: ثم صار بعد ذلك شيخ وقته، وإمام عصره، وفريد دهره، ونسيج وحده، وصارت له الوجاهة الكبيرة عند الملوك، والخلفاء، والمناظرات التي تحيد عنها فصاحة البلغاء، والسيرة التي تقاصر عنها من بادة الأضراب النظراء.

وقال القدوري: ما رأينا أفقه منه.

 

وفي اللباب: الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر محمد بن أحمد الإسفراييني، شيخ الشافعية بالعراق، ولد سنة (344 ç) ، اشتغل بالعلم منذ قدومه بغداد، فأخذ عن كبار علمائها، وبر ع في المذهب حتى فاق متقدميه، وأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة، واتفق معاصروه على تقديمه وتفضيله، وأخذ عنه جمع كبير من أئمة وفقهاء بغداد.

 

مؤلفاته:

 

قال الشيخ محيي الدين النواوي: تعليقة الشيخ أبي حامد في نحو من خمسين مجلدا، ذكر فيها مذاهب العلماء، وبسط أدلتها والجواب عنها، تفقه عليه جماعة منهم: أبو علي السنجي، وقد تفقه السنجي على القفال أيضا، وهما شيخا طريقتي العراق وخراسان، وعنهما انتشر المذهب.

 

وفاته ¬:

 

مات أبو حامد في ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال سنة ست وأربع مائة، ودفن من الغد يوم السبت.

ودفن في داره، ثم نقل إلى باب حرب في سنة عشر وأربع مائة.

قال الشيخ اليافعي: (وهذا يقتضي أنه نقل بعد موته بأربع سنين، وأن جسده ما بلي، ويكون ذلك كرامة في حقه).

قال الخطيب: (صليت على جنازته في الصحراء، وكان الإمام في الصلاة عليه عبد الله بن المهتدي خطيب جامع المنصور، وكان يوما مشهورا بعظم الحزن وشدة البكاء وكثرة الناس).

 


 

 

 

+++

 

 

 

 

أبو حامد الغزاليّ ¬([6])

 

قال الحافظ ابن عساكر ¬: وسمعت الشيخ الإمام أبا الحسن علي بن المسلم بن محمد بن علي بن الفتح بن علي السلمي على كرسيه بجامع دمشق يقول .. وكان على رأس المائة الخامسة –أي من المجددين-أمير المؤمنين المسترشد بالله وعندي –أي ابن عساكر- أن الذي كان على رأس الخمس مائة الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي الفقيه لأنه كان عالما عاملا فقيها فاضلا أصوليا كاملا مصنفا عاقلا انتشر ذكره بالعلم في الآفاق وبرز على من عاصره بخراسان والشام والعراق.

 

نسبه ومولده ونشأته:

 

قال الذهبي ¬: الشيخ، الإمام، البحر، حجة الإسلام، أعجوبة الزمان، زين الدين، أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، الغزالي، صاحب التصانيف، والذكاء المفرط.

 

تفقه ببلده أولا، ثم تحول إلى نيسابور في مرافقة جماعة من الطلبة، فلازم إمام الحرمين، فبرع في الفقه في مدة قريبة، ومهر في الكلام والجدل، حتى صار عين المناظرين، وأعاد للطلبة، وشرع في التصنيف.

 

وقال الشيخ تقي الدين ابن الصلاح: وقد سئل: لم سمي الغزالي بذلك، فقال:

حدثني من أثق به، عن أبي الحرم الماكسي الأديب، حدثنا أبو الثناء محمود الفرضي، قال:

حدثنا تاج الإسلام ابن خميس، قال لي الغزالي: الناس يقولون لي: الغزَّالي، ولست الغزَّالي، وإنما أنا الغزاليّ منسوب إلى قرية يقال لها: غزالة - أو كما قال -.

 

ما قاله العلماء عنه:

 

قال الخطيب ¬: إمام الفقهاء على الإطلاق، ورباني الأمة بالاتفاق، ومجتهد زمانه وعين وقته وأوانه، ومن شاع ذكره في البلاد واشتهر فضله بين العباد؛ قرأ في صباه طرفا من الفقه ببلده على أحمد الرادكاني، ثم سافر إلى جرجان إلى أبي نصر الإسماعيلي، وعلق عنه التعليق، وعاد إلى نيسابور فلازم الإمام أبا المعالي الجويني، وجد واجتهد حتى برع في المذهب والأصول والخلاف والمنطق، وقرأ الحكمة والفلسفة، وفهم كلام أرباب هذا العلم، وتصدى للرد عليهم وإبطال ما ادعوه، وصنف في كل فن من هذه العلوم كتبا أحسن تأليفها وأجاد ترتيبها وترصيفها.

 

وقال ابن عساكر ¬: كان إماما في علم الفقه مذهبا وخلافا وفي أصول الديانات والفقه وسمع صحيح البخاري من أبي سهل محمد بن عبيد الله الحفصي وولي التدريس بالمدرسة النظامية.

 

وقال أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي ¬ في تذييله تاريخ نيسابور قال محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي الطوسي حجة الإسلام والمسلمين إمام أئمة الدين من لم تر العيون مثله لسانا وبيانا ونطقا وخاطرا وذكاء وطبعا شدا طرفا في صباه بطوس من الفقه على الإمام الراذكاني ثم قدم نيسابور مختلفا إلى درس إمام الحرمين وجد واجتهد تخرج في مدة قريبة وبذ الأقران وحمل القرآن وصار أنظر أهل زمانه وواحد أقرانه في أيام إمام الحرمين وكان الطلبة يستفيدون منه ويدرس لهم ويرشدهم ويجتهد في نفسه ويبلغ الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف..

 

ووقعت للغزالي اتفاقات حسنة من الاحتكاك بالأئمة وملاقاة الخصوم اللد ومناظرة الفحول ومناقرة الكبار فظهر اسمه في الآفاق وارتفق بذلك أكمل الارتفاق حتى أدت الحال به إلى أن رسم للمصير إلى بغداد للقيام بالتدريس بالمدرسة الميمونية النظامية بها فصار إليها وأعجب الكل بتدريسه ومناظرته وما لقي مثل نفسه وصار بعد إمامة خراسان إمام العراق ثم نظر في علم الأصول وكان قد أحكمها فصنف فيها تصانيف وحرر المذهب في الفقه فصنف فيه تصانيف وسبك الخلاف فحرر فيه أيضا تصانيف وعلت حشمته ودرجته في بغداد حتى كان يغلب حشمة الأكابر والأمراء ودار الخلافة فانقلب الأمر من وجه آخر وظهر عليه بعد مطالعة العلوم الدقيقة وممارسة الكتب المصنفة فيها طريق التزهد والتأله وترك الحشمة وطرح ما نال من الدرجة والاشتغال بأسباب التقوى وزاد الآخرة.

وقال أبو إسحاق الحنبلي ¬: حجة الإسلام والمسلمين، إمام أئمة الدين، من لم تر العيون مثله لسانا، وبيانا، ونطقا، وخاطرا، وذكرا، وطبعا.. وحمل القرآن، وصار أنظر زمانه، وواحد أقرانه في أيام إمام الحرمين.

 

وقال ابن النجار: أبو حامد إمام الفقهاء على الإطلاق، ورباني الأمة بالاتفاق، ومجتهد زمانه، وعين أوانه، برع في المذهب والأصول والخلاف والجدل والمنطق، وقرأ الحكمة والفلسفة، وفهم كلامهم، وتصدى للرد عليهم، وكان شديد الذكاء، قوي الإدراك، ذا فطنة ثاقبة، وغوص على المعاني، حتى قيل: إنه ألف (المنخول) ، فرآه أبو المعالي، فقال: دفنتني وأنا حي، فهلا صبرت الآن، كتابك غطى على كتابي.

 

وقال إمام الحرمين ¬: الغزالي بحر مغرق، وإلكيا أسد مطرق، والخوافي نار تحرق.

 

وقال الذهبي ¬: فرحم الله الإمام أبا حامد، فأين مثله في علومه وفضائله، ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ، ولا تقليد في الأصول.

 

وقال ابن السبكي ¬: الإمام الجليل أبو حامد الغزالي حجة الإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار السلام جامع أشتات العلوم والمبرز في المنقول منها والمفهوم جرت الأئمة قبله بشأو ولم تقع منه بالغاية ولا وقف عند مطلب وراءه مطلب لأصحاب النهاية والبداية.

 

وكان ¢ ضرغاما إلا أن الأسود تتضاءل بين يديه وتتوارى وبدرا تماما إلا أن هداه يشرق نهارا وبشرا من الخلق ولكنه الطود العظيم وبعض الخلق لكل مثل ما بعض الحجر الدر النظيم جاء والناس إلى رد فرية الفلاسفة أحوج من الظلماء لمصابيح السماء وأفقر من الجدباء إلى قطرات الماء فلم يزل يناضل عن الدين الحنيفي بجلاد مقاله ويحمى حوزه الدين ولا يلطخ بدم المعتدين حد نصاله حتى أصبح الدين وثيق العرى وانكشفت غياهب الشبهات وما كانت إلا حديثا مفترى هذا مع ورع طوى عليه ضميره وخلوة لم يتخذ فيها غير الطاعة سميره وتجريد تراه به وقد توحد في بحر التوحيد وباهى.

 

وكان ¢ شديد الذكاء سديد النظر عجيب الفطرة مفرط الإدراك قوي الحافظة بعيد الغور غواصا على المعاني الدقيقة جبل علم مناظرا محجاجا.

 

ثم لما مات إمام الحرمين خرج الغزالي إلى المعسكر قاصدا للوزير نظام الملك إذ كان مجلسه مجمع أهل العلم وملاذهم فناظر الأئمة العلماء في مجلسه وقهر الخصوم وظهر كلامه عليهم واعترفوا بفضله وتلقاه الصاحب بالتعظيم والتبجيل وولاه تدريس مدرستة ببغداد وأمره بالتوجه إليها.

وسئل السيد الكبير العارف بالله سيد وقته أيضا أبو العباس المرسي تلميذ الشيخ أبي الحسن عن الغزالي فقال أنا أشهد له بالصديقية العظمى!

 

وقال تاج الدين الساعي ¬: حجّة الإسلام، إمام الفقهاء الشافعية، وربّانيّ الأمة، جمع بين علم الظاهر والباطن، وفاق أهل زمانه بتلخيص العبارة، وحسن التمثيل والاستعارة، وزاد على من كان قبله في تنميق التصنيف، وأعجز من جاء بعده في حسن التأليف، ومن نظر في تصانيفه علم. أنه كان منقطع القرين، متفنّنا في كثير من العلوم، لا يشقّ غباره، ولا يدرك مضماره واشتهرت تصانيفه في الدّنيا، وسارت مسير الشمس والقمر، وعمّ بها الانتفاع، وأخذ في مجاهدة النفس ورياضة الأخلاق وتهذيبها، والخروج عن الرسوم العاديّة والترتيبات، وقصر الأمل والتّزيّي بزيّ الصالحين، ووقف الأوقاف على مصالح الخلق، والاشتغال بهداية السالكين، والاستعداد للرّحيل عن الدّنيا إلى الدار الباقية، حتى ظهرت عليه آثار أنوار المشاهدة، والقرب من الباري ، ولم يزل على ذلك إلى أن توفّي ¬.

 

وقال ابن العربي: لقيته في الطواف وعليه مُرَقَّعة، فقلت له: أَوْلى لك من هذا غير هذا، فأنت صدرٌ بكَ يُقتدى، وبنورك إلى معالم المعارف يُهتدى، فقال: هيهات: لما طلع قمرُ السعادة في تلك الإرادة، أشرقت شموس الأفول، على مصابيح الأصول، فتبين الخالق لأرباب الألباب والبصائر، إذ كل لما طُبع عليه راجع وصائر.

 

وقال تقي الدين المقريزي ¬: لازم أيضا أبا المعالي الجوينيّ بنيسابور، وجدّ واجتهد حتّى برع في المذهب والخلاف، والأصولين، والجدل، والمنطق، وقرأ الحكمة والفلسفة، وفهم كلام أرباب هذه العلوم، وتصدّى للرد عليهم وإبطال ما ادّعوه، وصنّف في كلّ فنّ من هذه العلوم كتبا أحسن تأليفها، وأجاد ترتيبها وترصيفها. وكان شديد الذكاء، قويّ الإدراك، بعيد الغور، ذا فطنة ثاقبة، وذهن حاضر، وغوص على المعاني، وحسن إيراد لما يورده. فحصل له في مدّة قريبة ما لم يحصل لأمثاله في مدّة طويلة، حتى صار أفقه أهل زمانه، وانظر أقرانه، وسابق ميدانه، وريحانة بستانه، وإمام الفقهاء على الإطلاق، وربّانيّ الأمّة بالاتّفاق، ومجتهد زمانه، وعين وقته وأوانه. فشاع ذكره في البلاد، واشتهر فضله بين العباد، فاتّفقت الطوائف على تبجيله وتعظيمه وتوقيره وتكريمه، فخافه المخالفون، وانقهر لحججه وأدلّته المناظرون، وظهرت بتنقيحاته فضائح المبتدعة والمخالفين، وقام بنصر السنّة وإظهار كلمة الدين، وسارت مصنّفاته في الدنيا سير الشمس في البهجة والجمال، وشهد له الموافق والمخالف بالمتقدّم والكمال.

 

وقال أسعد بن أبي نصر الميهني: لا يصل إلى معرفة علم الغزالي وفضله إلّا من بلغ، أو كاد يبلغ، الكمال في عقله.

 

وقال الإمام فخر الدين الرازي عن كتاب الإحياء: كأنّ الله جمع الوجود كلّه في قبّة، وأطلع الغزالي من قبّتها على أحوالهم الباطنة والظاهرة حتى تكلّم عليها.

 

 

مؤلفاته ¬:

 

له في المذهب الوسيط والبسيط والوجيز والخلاصة

وفي سائر العلوم

كتاب إحياء علوم الدين

وكتاب الأربعين

وكتاب الأسماء الحسنى

والمستصفى في أصول الفقه

والمنخول في أصول الفقه ألفه في حياة أستاذه إمام الحرمين

وبداية الهداية والمآخذ في الخلافيات

وتحصين المآخذ

وكيمياء السعادة بالفارسية

والمنقذ من الضلال

واللباب المنتخل في الجدل

وشفاء الغليل في بيان مسالك التعليل

والاقتصاد في الاعتقاد

ومعيار النظر

ومحك النظر

وبيان القولين للشافعي

ومشكاة الأنوار

والمستظهري في الرد على الباطنية

وتهافت الفلاسفة

والمقاصد في بيان اعتقاد الأوائل وهو مقاصد الفلاسفة

وإلجام العوام في علم الكلام

والغاية القصوي

وجواهر القرآن

وبيان فضائح الإمامية

وغور الدور في المسألة السرجية وهو المختصر الأخير فيها رجع فيه عن مصنفه الأول فيها المسمى بغاية الغور في دراية الدور

وكشف علوم الآخرة

والرسالة القدسية

والفتاوى

وميزان العمل

وقواصم الباطنية وهو غير المستظهري في الرد عليهم

وحقيقة الروح

وكتاب أسرار معاملات الدين

وعقيدة المصباح

والمنهج الأعلى

وأخلاق الأنوار

والمعراج

وحجة الحق

وتنبيه الغافلين

والمكنون في الأصول

ورسالة الأقطاب

ومسلم السلاطين

والقانون الكلي

والقربة إلى الله

ومعيار العلم

ومفصل الخلاف في أصول القياس

وأسرار اتباع السنة

وتلبيس إبليس

والمبادى والغايات

والأجوبة

وكتاب عجائب صنع الله

ورسالة الطير

الرد على من طغى

 

زهده ¬:

 

وكان له من الأسباب إرثا وكسبا ما يقوم بكفايته ونفقة أهله وأولاده فما كان يباسط أحدا في الأمور الدنيوية وقد عرضت عليه أموال فما قبلها وأعرض عنها واكتفى بالقدر الذي يصون به دينه ولا يحتاج معه إلى التعرض لسؤال ومنال من غيره.

ما قيل في المنامات عنه:

 

قال أبو محمد العثماني، وغيره: سمعنا محمد بن يحيى العبدري المؤدب يقول:

رأيت بالإسكندرية سنة خمس مائة كان الشمس طلعت من مغربها، فعبره لي عابر ببدعة تحدث فيهم، فبعد أيام وصل الخبر بإحراق كتب الغزالي من المرية.

 

وقال ابن السبكي ¬: وكان في زماننا شخص يكره الغزالي يذمه ويستعيبه في الديار المصرية فرأى النبي في المنام وأبا بكر وعمر ƒ بجانبه والغزالي جالس بين يديه وهو يقول يا رسول الله هذا يتكلم في وأن النبي قال هاتوا السياط وأمر به فضرب لأجل الغزالي وقام هذا الرجل من النوم وأثر السياط على ظهره ولم يزل وكان يبكي ويحكيه للناس.

 

وفاته ¬:

 

توفي في يوم الإثنين رابع عشر جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة، وقبره بظاهر الطابران قصبة طوس.

قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الثبات عند الممات قال أحمد أخو الإمام الغزالي لماكان يوم الاثنين وقت الصبح توضأ أخي أبو حامد وصلى وقال علي بالكفن فأخذه وقبله ووضعه على عينيه وقال سمعا وطاعة للدخول على الملك ثم مد رجليه واستقبل القبلة ومات قبل الإسفار قدس الله روحه.


 

 

 

+++

 

 

فخر الدين الرازي ¬([7])

 

ذكر كثير من أئمة الإسلام أن الفخر الرازي ¬ مجدد القرن السادس الهجري. منهم: السيوطي وابن السبكي والسخاوي والمناوي وغيرهم ولفظ الامام اذا اطلق عند الشافعية فالرازي هو المقصود.

 

قال ابن الملقن ¬: وأغرب الذهبي حيث ذكره في الضعفاء وسماه الفخر وهو إفراط منه، فقد قيل إنه السادس المبعوث لتجديد الدين، وهو ثقة لا يعرف له رواية.

 

نسبه ومولده وشيوخه:

 

قال ابن كثير ¬: هو محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي العلامة سلطان المتكلمين في زمانه فخر الدين أبو عبد الله القرشي البكري التيمي الطبرستاني الأصل ثم الرازي ابن خطيبها الشافعي.

 

وكانت ولادة فخر الدين في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين، وقيل ثلاث وأربعين وخمسمائة، بالري.

 

واشتغل على والده الإمام ضياء الدين عمر، وكان من تلامذة محيي السنة أبي محمد البغوي.

 

صفته الخلقية والخَلقية:

 

وكان شديد الحرص جدا في العلوم الشرعية والحكمية، حاد الذهن، كثير البراعة، قوي النظر في صناعة الطب، عارفا بالأدب، له شعر بالفارسي والعربي، وكان عبل البدن، ربع القامة، كبير اللحية، في صوته فخامة.

 

ما قاله العلماء عنه:

 

قال ابن خلكان ¬: فخر الدين الرازي.. فريد عصره ونسيج وحده، فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات وعلم الأوائل، له التصانيف المفيدة في فنون عديدة وكل كتبه ممتعة، وانتشرت تصانيفه في البلاد ورزق فيها سعادة عظيمة فإن الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدمين، وهو أو لمن اخترع هذا الترتيب في كتبه، وأتى فيها بما لم يسبق إليه.

 

وكان له في الوعظ اليد البيضاء، ويعظ باللسانين العربي والهجمي، وكان يلحقه الوجد في حال الوعظ ويكثر البكاء، وكان يحضر مجلسه بمدينة هراة أرباب المذاهب والمقالات ويسألونه وهو يجيب كل سائل بأحسن إجابة، ورجع بسببه خلق كثير من الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السنة، وكان يلقب بهراة شيخ الإسلام.

ويقال إنه كان يحفظ الشامل لإمام الحرمين في علم الكلام.. وكان العلماء يقصدونه من البلاد، وتشد إليه الرحال من الأقطار.

 

واتصل بالسلطان محمد بن تكش المعروف بخوارزم شاه، وحظي عنده، ونال أسنى المراتب، ولم يبلغ أحد منزلته عنده، ومناقبه أكثر من أن تعد، وفضائله لا تحصى ولا تحد.

 

وقال الإمام أبو شامة: وقد رأيت جماعة من أصحابه قدموا علينا دمشق، وكلهم كان يعظمه تعظيما كبيرا، ولا ينبغي أن يسمع فيمن ثبتت فضيلته كلام يستبشع، لعله من صاحب غرض من حسد، أو مخالفة في مذهب أو عقيدة.

 

وابن السبكي ¬: إمام المتكلمين ذو الباع الواسع في تعليق العلوم والاجتماع بالشاسع من حقائق المنطوق والمفهوم والارتفاع قدرا على الرفاق وهل يجري من الأقدار إلا الأمر المحتوم بحر ليس للبحر ما عنده من الجواهر وحبر سما على السماء وأين للسماء مثل ما له من الزواهر وروضة علم تستقل الرياض نفسها أن تحاكي ما لديه من الأزاهر.

انتظمت بقدره العظيم عقود الملة الإسلامية وابتسمت بدره النظيم ثغور الثغور المحمدية تنوع في المباحث وفنونها وترفع فلم يرض إلا بنكت تسحر ببيونها وأتى بجنات طلعها هضيم وكلمات يقسم الدهر أن الملحد بعدها لا يقدر أن يضيم

وله شعار أوى الأشعري من سننه إلى ركن شديد واعتزل المعتزلي علما أنه ما يلفط من قول إلا لديه رقيب عتيد.

 

وخاض من العلوم في بحار عميقة وراض النفس في دفع أهل البدع وسلوك الطريقة

أما الكلام فكل ساكت خلفه وكيف لا وهو الإمام رد على طوائف المبتدعة وهد قواعدهم.

وقال ابن كثير ¬: المفسر المتكلم، صاحب المصنفات المشهورة والفضائل الغزيرة المذكورة وأتقن علوما كثيرة، وبرز فيها، وتقدم وساد، وقصده الطلبة من سائر البلاد، وصنف في فنون كثيرة، فمن ذلك: تفسيره المشهور، وله تفسير الفاتحة في مجلد مفرد، وله شرح الأسماء الحسنى وكان له مجلس كبير للوعظ، وكان يتكلم كلامًا جيدًا، وله تمكن من الوعظ باللسانين العربي، والتركي، وكان يحضره الناس على اختلاف أصنافهم، ومذاهبهم ويجيء إلى مجلسه الأمراء والأكابر والملوك، ويحصل له مكان مجلسه رقة، ويظهر خشوعًا مات بسببه أناس كثير، جرت بينه وبين جماعة من الساسة مخاصمات، وفتن وأوذي بسببهم وأذاهم، وكان ينال منهم في مجلسه، وينالون منه، وأخرج من بعض البلدان بسببهم فيما ذكره القاضي ابن خلكان

 

قلت –أي ابن كثير-: جالت أقلام فخر الدين ¬ في فنون كثيرة من العلوم، واتسعت دائرته وتسلطن في فن الكلام خاصة حتى قيل: إنه كان يحفظ الشامل لإمام الحرمين في ذلك، وله اختيارات كثيرة في كتب متعددة يرد بعضها بعضًا، ولكن الذي صنفه على طريقة أهل الكلام نهاية العقول، وهو من أجود كتبه، وكذا كتاب الأربعين، وأما المباحث الشرقية فأكثرها على طريق الحكمة، ومذهب الفلاسفة، وكتابه المطالب العالية أجمع في ذلك كله، وهي آخر ما صنف في ذلك، وبهذا لم يتمها، وبقي عليه منها بقية.

 

ما قاله من المنظوم والمنثور آخر حياته:

 

كان له مع هذه العلوم شيء من النظم، فمن ذلك قوله:

نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أنم جمعنا فيه قيل وقالوا

ولم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال.

 

قال: رأيت الأصلح والأصوب طريقة القرآن، وهو ترك التعمق والاستدلالات بأقسام أجسام السماوات والأرضين على وجود الرب ثم ترك التعمق، ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل، فأقرأ في التنزيه قوله: " ﴿والله الغني وأنتم الفقراء﴾ "، وقوله: " ﴿ليس كمثله شيء﴾ " و " ﴿قل هو الله أحد﴾ "، وأقرأ في الإثبات: " ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ "، و " ﴿يخافون ربهم من فوقهم﴾ "، و " ﴿إليه يصعد الكلم الطيب﴾ "، وأقرأ في أن الكل من الله قوله: " ﴿قل كل من عند الله﴾ "، وفي تنزيهه عن ما لا ينبغي: " ﴿ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك﴾ " وعلى هذا القانون فقس. وأقول من صميم القلب من داخل الروح: إني مقر بأن كل ما هو الأكمل الأفضل الأعظم الأجل، فهو لك، وكل ما فيه عيب ونقص، فأنت منزه عنه. وأقول: إن عقلي وفهمي قاصر عن الوصول إلى كنه صفة ذرة من مخلوقاتك.

 

ومن كلام فخر الدين: إن كنت ترحم فقيرا، فأنا ذاك، وإن كنت ترى معيوبا، فأنا ذاك المعيوب، وإن كنت تخلص غريقا، فأنا الغريق في بحر الذنوب. وإن كنت أنت أنت، فأنا أنا ليس غير النقص والحرمان والذل والهوان.

 

وصيته ¬:

 

قال ابن خلكان ¬: أوصى بهذه الوصية لما احتضر لتلميذه إبراهيم بن أبي بكر الأصبهاني: يقول العبد الراجي رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وهو أول عهده بالآخرة، وآخر عهده بالدنيا، وهو الوقت الذي يلين فيه كل قاس، ويتوجه إلى مولاه كل آبق: أحمد الله تعالى بالمحامد التي ذكرها أعظم ملائكته في أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات شهاداتهم، وأحمده بالمحامد التي يستحقها، عرفتها أو لم أعرفها؛ لأنه لا مناسبة للتراب مع رب الأرباب. وصلاته على الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله الصالحين.

 

ثم اعلموا إخواني في الدين وأخلائي في طلب اليقين، أن الناس يقولون: إن الإنسان إذا مات انقطع عمله، وتعلقه عن الخلق، وهذا مخصص من وجهين: الأول: [أنه] بقى منه عمل صالح صار ذلك سببا للدعاء، والدعاء له عند الله أثر، الثاني: ما يتعلق بالأولاد، وأداء الجنايات.

 

أما الأول: فاعلموا أنني كنت رجلا محبا للعلم، فكنت أكتب في كل شيء شيئا لأقف على كميته وكيفيته، سواء كان حقا أو باطلا، إلا أن الذي نظرته في الكتب المعتبرة أن العالم المخصوص تحت تدبير مدبر منزه عن مماثلة المتحيزات، موصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة. ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية؛ فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن؛ لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلالة لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية، فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة، من وجوب وجوده، ووحدته، وبراءته عن الشركاء في القدم، والأزلية، والتدبير، والفعالية، فذلك هو الذي أقول به، وألقى الله به. وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، وكل ما ورد في القرآن والصحاح، المتعين للمعنى الواحد، فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين، إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فلك ما مد به قلمي، أو خطر ببالي فاستشهد وأقول: إن علمت مني أني أردت به تحقيق باطل، أو إبطال حق، فافعل بي ما أنا أهله، وإن علمت مني أني ما سعيت إلا في تقرير اعتقدت أنه الحق، وتصورت أنه الصدق، فلتكن رحمتك مع قصدي لا مع حاصلي، فذاك جهد المقل، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في زلة، فأغثني، وارحمني، واستر زلتي، وامح حوبتي، يا من لا يزيد ملكه عرفان العارفين، ولا ينقص ملكه بخطأ المجرمين.

 

وأقول: ديني متابعة الرسول محمد ، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما، اللهم يا سامع الأصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا مقيل العثرات، أنا كنت حسن الظن بك، عظيم الرجاء في رحمتك، وأنت قلت: " أنا عند ظن عبدي بي "، وأنت قلت: " ﴿أمن يجيب المضطر إذا دعاه﴾ "، فهب أني ما جئت بشيء، فأنت الغني الكريم، وأنا المحتاج اللئيم، فلا تخيب رجائي، ولا ترد دعائي، واجعلني آمنا من عذابك قبل الموت، وبعد الموت، وعند الموت، وسهل علي سكرات الموت فإنك أرحم الراحمين.

 

وأما الكتب التي صنفتها، واستكثرت فيها من إيراد السؤالات، فليذكرني من نظر فيها بصالح دعائه، على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف القول السيئ؛ فإني ما أردت إلا تكثير البحث، وشحذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله.

 

الثاني: وهو إصلاح أمر الأطفال، والاعتماد فيه على الله.

ثم إنه سرد وصيته في ذلك، إلى أن قال: وأمرت تلامذتي، ومن لي عليه حق إذا أنا مت، يبالغون في إخفاء موتي، ويدفنوني على شرط الشرع، فإذا دفنوني قرأوا علي ما قدروا عليه من القرآن، ثم يقولون: يا كريم، جاءك الفقير المحتاج، فأحسن إليه.

سمعت وصيته كلها من الكمال عمر بن إلياس بن يونس المراغي، قال: أخبرنا التقي يوسف بن أبي بكر النسائي بمصر، قال: أخبرنا الكمال محمود بن عمر الرازي، قال: سمعت الإمام فخر الدين يوصي تلميذه إبراهيم بن أبي بكر، فذكرها.

 

وفاته ¬:

 

وتوفي يوم الاثنين، وكان عيد الفطر، سنة ست وستمائة بمدينة هراة، ودفن آخر النهار في الجبل المصاقب لقرية مزداخان، ¬ تعالى، ورأيت له وصية أملاها في مرض موته على أحد تلاميذته تدل على حسن العقيدة.


 

 

 

 

 

+++

 

 

 

 

 

 

ابن دقيق العيد ¬([8])

 

قال الذهبي ¬: وقد كان على رأس الأربع مائة الشيخ أبو حامد الإسفراييني، وعلى رأس الخمس مائة أبو حامد الغزالي، وعلى رأس الست مائة الحافظ عبد الغني، وعلى رأس السبع مائة شيخنا أبو الفتح ابن دقيق العيد.

 

نسبه ومولده:

 

هو الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري الشافعي.

 

ولد، وأبواه متوجّهان في بحر الملح إلى الحجاز، على ثبج البحر، في يوم السبت خامس عشرين شعبان، سنة خمس وعشرين وستّمائة. فلمّا قدم أبوه مكّة حمله وطاف به البيت وسأل الله أن يجعله عالما عاملا.

 

 

 

قول أئمة الإسلام فيه:

 

قال ابن كثير ¬: هو الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة ابن دقيق العيد أحد علماء وقته، بل أجلهم وأكبرهم علمًا ودينًا وورعًا تقشفًا ومداومة على العلم في ليلة ونهاره مع كبر السن والشغل بالحكم، وله التصانيف المشهورة، والعلوم المذكورة.. ونشأ بديار مصر، واشتغل أولا بمذهب الإمام مالك، ودرس فيه بمدينة قوص، ثم تمذهب للشافعي ¬، حصل فيه الغاية دراية ونقلا وتوجيها، وبرع في علوم كثيرة لا سيما في علم الحديث، فاق فيه أقرانه، وبرز على أهل زمانه، ورحل إليه الطلبة من الآفاق، ووقع على علمه وورعه وزهده الاتفاق.

 

وقال ابن ناصر الدين ¬: وَكَانَ إِمَامًا حَافِظًا فَقِيها ذَا تَحْرِير مالكيا شافعيا لَيْسَ لَهُ نَظِير وَكَانَ يُفْتِي بالمذهبين ويدرس فيهمَا بمدرسة الْفَاضِل على الشَّرْطَيْنِ وَله الْيَد الطُّولى فِي معرفَة الْأَصْلَيْنِ.

 

وقال صديق خان ¬: تبحر في جميع العلوم الشرعية، وخضع له أكابر الزمان، وطار صيته، واشتهر ذكره، وأخذ عنه الطلبة، وصنف التصانيف الفائقة.

 

قال الصلاح الكتبي ¬: كان إمامًا متفننًا محدِّثًا مجوِّدًا فقيهًا مدققًا أصوليًا أديبًا شاعرًا نحويًا ذكيًا، غواصًا عَلى المعاني مجتهدًا، وافرَ العقل، كثيرَ السكينة، بخيلاً بالكلام، تامَّ الورع، شديدَ التدين، مُديمَ السهر، مُكِبًا على المطالعة والجمع، قلَّ أن ترى العيونُ مثله.

 

وقال الحلبي ¬: كان حافظًا للحديث وعلومه، يُضرب به المثل في ذلك، وكان آية في الإتقان.

 

وقال ابن الزملكاني ¬: إمامُ الأئمة في فنه، وعلامةُ العلماء في عصره، بل ولم يكن من قبله من سنين مثلُه في العلم والدين، والزهد والورع، تفرد في علوم كثيرة، وكان يعرف التفسير والحديث، ويحقق المذهبين - يعني: مذهب مالك، والشافعي -، ويعرف الأصلَين، وكان السلطان لاجين ينزل له عن سريره، ويقبل يديه.

 

وقال ابن سيد الناس ¬: له تخلق وبكرامات الصالحين تحقق، وبعلامات العارفين تعلق، ولو لم يدخل في القضاء، لكان ثوريَّ زمانه، وأوازعيَّ أوانه.

 

وقال ابن عبد الهادي ¬: الإِمام، الفقيه، الحافظ، العَلَّامة الأَوْحد، الشيخ تقي الدِّين.. كان من أذكياء زمانه، واسع العِلْم، كثيرَ الكُتُب، مديمًا للاشتغال، وكان يبالغ في أمر الطَّهارة ويشدد.

 

وقال الشهاب ابن فضل الله في حقّه: صاحب التصانيف، آخر المجتهدين، وفاخر درر المقلّدين، حجّة العلماء الأعلام، ومحجّة القصد والسلام، رافع منار الشرع المطهّر، ومعلّي قدر فرقده، ومعلن اسم سؤدده، ومعلم البروق اللامعة، بأنّها لا طاقة لها بتوقّده، ومعلّق طيبه بمفرق الدهر مسك ليله وكافور غده، قام بالحقّ وكلّ قاعد، وهبّ، وكلّ على جفنه النوم عاقد، وتخلّق بخلائق السلف، عليه مضوا وبه جاءوا، وعليه قضوا، من علم تلافى الفساد، وأوفى بقدر السلف وزاد، وورع ما دنّس ثوبه، ولا كدّر صوبه..

وكان على وفور علمه ودينه، وشواغله بالتصنيف في كلّ حينه، يكمن ناره في زناده، ويحبس أواره في فؤاده، ويلبس الرجال على بغضها، ويسلب كلّ الأعمال لبعضها. وربّما قدر فعقر، وواخذ فما غفر. إلّا أنّ التقوى كانت تمنعه من أليم المجازاة، وتردّه عن بلوغ حدّ الغاية من التشفّي، وفي النفس حزازات.

 

وقال المقريزي ¬: حاكم الحكّام، حجّة الإسلام، مفتي الأنام، شيخ الإسلام، بقيّة المجتهدين، القائم بوظيفة السنّة النبويّة في العالمين.

 

وقال: حكى لي علم الدين أحمد الأسفوني قال: ذكره شيخنا علاء الدين علي بن إسماعيل القونويّ، فقلت له:

لكنّه ادّعى الاجتهاد؟

فسكت مفكّرا ثم قال: والله ما هو بعيد..

وحكى عنه غير واحد أنّه كان يملي شرح الإلمام من لفظه وحفظه.

 

 

معارضته للسلطان في أخذ المال من الرعيّة:

 

لمّا رجعت العساكر إلى القلعة منهزمة من غازان ملك التتر في ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وستّمائة، وأخذوا في الاستعداد لمحاربته ثانيا، استدعى الأميران بيبرس الجاشنكير وسلّار نائب السلطنة، وإليهما يومئذ جميع الدولة، بالقاضي مجد الدين عيسى ابن الخشّاب وكيل السلطان ليأخذ فتوى الفقهاء بجواز أخذ السلطان من الرعيّة مالا لينفقه على قتال غازان. فتقرّب إليهما بأن أحضر فتوى الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام للملك المظفّر قطز بأن يؤخذ من كلّ إنسان دينار عند ما تحرّك لمحاربة هولاكو.

فبعث الأمير سلّار بالفتوى إلى ابن دقيق العيد ليكتب عليها، فامتنع. فشقّ امتناعه على سلّار فاستدعاه، وقد جمع الأمراء، وشكا إليه قلّة المال، وأنّ الضرورة قد دعت إلى أخذ مال الرعيّة لدفع العدوّ، ولا بدّ من كتابة القاضي بجواز ذلك.

فقال له: لا أكتب شيئا.

فاحتجّ ابن الخشّاب عليه بفتوى ابن عبد السلام، فقال: إنّ ابن عبد السلام لم يكتب لقطز حتّى أحضر سائر الأمراء جميع ما ملّكهم من الذهب والفضّة وحلي النساء والأولاد إلى بين يديه، ورآه، وحلّف كلّا منهم أنّه لا يملك سوى ما أحضره. فلمّا علم أنّ ذلك غير كاف، ولا يقوم بتجهيز العساكر، أفتى حينئذ بجواز أخذ دينار من كلّ واحد. أمّا الآن، فبلغني أنّ كلّ واحد من الأمراء له مال جزيل، وأنّ فيهم من يجهّز ابنته ليزفّها إلى زوجها، وأنّه عمل في شورتها الجوهر واللآلي والحلي الذهب، واتّخذ لها الأواني من الفضّة، حتى إنّه عمل البكلة التي توضع في الخلاء ليستنجي منها، فضّة، وأنّه رصّع مداس امرأته بالجواهر- يريد بذلك الأمير بيبرس- فكيف يحلّ مع ذلك أخذ شيء من أموال الرعيّة؟ لا والله، لا جاز لأحد أن يتعرّض لدرهم من أموال الناس، إلّا بوجه شرعيّ! ثم قام وتركهم.

 

من نظمه ¬:

 

لم يَبْقَ لي أَمَلٌ سواكَ فإنْ يَفُتْ ... وَدَّعْتَ أيامَ الحياةِ وداعا

لا أستلذُّ بغيرِ وجهِك منظَرًا ... وسِوى حديثِك لا أُريدُ سَماعا

وله - رح -:

تمنيتُ أن الشيبَ عاجَلَ لِمَّتي ... وقَرَّبَ مِنِّي في صِبايَ مَزَارَهُ

فآخُذَ من عصرِ الشبابِ نشاطَهُ ... وآخذَ من عصرِ المشيبِ وقارَهُ

 

مؤلفاته ¬:

 

قال المقريزي: صنّف وأملى. فمن أماليه: شرح عمدة الأحكام، وهو يدلّ على علوّ منزلته في العلم.

وشرح كتاب الإلمام،-ولم يتم شرحه- وهو يتضمّن من الفوائد النقليّة، والقواعد العقليّة، والأنواع الأدبيّة، والنكت الأخلاقيّة، والمباحث المنطقيّة، واللطائف البيانيّة، والموادّ اللغويّة، والأبحاث النحويّة، والعلوم الحديثيّة، والملح التاريخيّة، والإشارات الصوفيّة ما لو كمل، لأغنى عن كلّ مصنّف في هذا المعنى. قال القاضي شمس الدين محمد بن أحمد ابن القمّاح الشافعيّ: أنا جازم أنّه ما وضع في هذا الفنّ مثله.

وينقل عن شيخ الإسلام تقيّ الدين أحمد ابن تيميّة مثل ذلك، وأنّه قال: وهو كتاب الإسلام.

 

طول قيامه في الليل ¬:

 

قَالَ الصاحب شمس الدَّين سَمِعت الشَّيْخ الإِمَام شهَاب الدَّين أَحْمد بن إِدْرِيس القرافي المالكي يَقُول أَقَامَ الشَّيْخ تقي الدَّين أَرْبَعِينَ سنة لَا ينَام اللَّيْل إلا أَنه إِذا كَانَ صلى الصُّبْح اضْطجع على جنبه إِلَى حِين يضحى النَّهَار قَالَ زكي الدَّين عبد الْعَظِيم بن أَبى الْأَصْبَغ صَاحب البديع ذكرت للشَّيْخ تقي الدَّين بن دَقِيق الْعِيد وُجُوه الْمُبَالغَة فِي قَوْله تَعَالَى ﴿أيود أحدكُم أَن تكون لَهُ جنَّة من نخيل وأعناب﴾ الْآيَة

 

رؤيته لصاحبه في المنام:

 

قَالَ ابْن حجر قَرَأت بِخَط مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم العثماني قاضي صفد أخبرني الْأَمِير سيف الدَّين الحسامي قَالَ خرجت يَوْمًا إِلَى الصَّحرَاء فَوجدت ابْن دَقِيق الْعِيد وَاقِفًا فِي الْجَبانَة يقْرَأ وَيَدْعُو ويبكي فَسَأَلته فَقَالَ صَاحب هَذَا الْقَبْر كَانَ من أصحابي وَكَانَ يقْرَأ علي فَمَاتَ فرأيته البارحة فَسَأَلته عَن حَاله فَقَالَ لما وضعتموني فِي الْقَبْر جاءني كلب أنقط كالسبع وَجعل يروعني فارتعت فجَاء شخص لطيف فِي هَيْئَة حَسَنَة فطرده وَجلسَ عندي يؤنسني فَقلت من أَنْت فَقَالَ أَنا ثَوَاب قراءتك الْكَهْف يَوْم الْجُمُعَة انْتهى

وفاته ¬:

 

وكانت وفاته ¬ يوم الجمعة الحادي عشر من شهر صفر سنة ثلاث وسبع مائة بالقاهرة، ودفن بالقرافة الصغرى.

 

 


 

 

+++

 

 

سراج الدين البُلقيني ¬([9])

 

قال أبو البركات الشافعي ¬: والذي يظهر أن المبعوث في الثامنة الشيخ صاحب الترجمة –البلقيني-، وقد صرح بذلك جماعة منهم المحدث ناظم هذه القصيدة، وقد مات قبل الشيخ بمدة قبل انقضاء القرن وكذلك غيره كما وقفت عليه من كلام أئمة هذا الشأن والعلامة المختصة موجودة فيه فإنه ¬ كان رأس علماء هذا القرن كما أن الشافعي وابن سريج والغزالي ومن ذكرناه قبل، كل منهم تأخر إلى أول القرن الذي يليه، وهذا من العلامة المذكورة من الشارع وإليها الإشارة بقوله - -: "على رأس كل مائة عام" الحديث المتقدم، وأيضاً فهو المشار إليه من بين أقرانه، لا ينكر هذا إلا جاهل بأيام الناس أو جاحد.

قال شيخنا حافظ عصره قاضي القضاة ابن حجر في ترجمة الشيخ: وشهد جمعٌ جمٌّ أنه العالم الذي على رأس القرن.

وممن رأيت خَطَّه بذلك في حقه الحافظ أبو الفضل ابن العراقي، بعد أن كان يصرح قديماً أن الأمر قد اقترب وانقضى ذلك، فلما انسلخ القرن ودخل القرن الآخر وصادف الشهرة التي حصلت للشيخ جزم في حقه بذلك - رحمهما الله تعالى- قلت: ويكفي الشيخ شهادة حافظ الإسلام في زمنه وحده له بذلك، لا سيما وقد ذكرنا جماعة ممن شهد له بذلك، فلا ريب فيه والله أعلم.

 

نسبه ومولده:

 

الامام شيخ الاسلام مُجْتَهد الْعَصْر نادره الْوَقْت فَقِيه الدُّنْيَا سراج الدّين خَاتِمَة الْمُجْتَهدين أَبُو حَفْص عمر بن رسْلَان بن أبي المظفر نصير بن أبي التقى صَالح وَهُوَ أول من سكن بلقين بن حمد بن مُحَمَّدًا ابْن عبد الْحق بن مُسَافر الْكِنَانِي البُلْقِينِيّ امام الْأَئِمَّة وعالم الامة ولد فِي شعْبَان أَربع وَعشْرين وَسَبْعمائة.

 

وبلقينةُ بُليدةٌ بالغربية من أعمال الديار المصرية.

 

نشأته ¬:

 

حفظ القرآن ببلده وهو ابن سبع سنين، وحفظ الشاطبية والمحرر للرافعي والكافية الشافية لابن مالك ومختصر ابن الحاجب الأصولي.

 

ثم قدم القاهرة سنة ست وثلاثين واجتمع إذ ذاك بالشيخ تقي الدين السبكي والقاضي جلال الدين القزويني، وأثنى كل منهما عليه مع صغر سنه ثم رجع إلى بلده.

ثم قدم إلى القاهرة أيضاً في سنة ثمان وثلاثين، وقد ناهز الاحتلام مستوطناً بها، وحج بالموسم مع والده سنة أربعين وَدَرَسَ الفقه على الشيخ نجم الدين الأسواني وابن عدلان وزين الدين التلمساني وشمس الدين ابن القماح والأصول على الشمس الأصفهاني وأجازه بالإفتاء، وأخذ النحو والأدب على أبي حيان، وسمع البخاري من الشيخ جمال الدين بن شاهد الجيش، ومسلم من العلامة شمس الدين بن القمّاح، وسمع بقية الكتب الستة وغيرها من المسانيد من جماعة، وتخرج بغيرهم من مشايخ العصر، ولزم الاشتغال وحضر عند الشيخ تقي الدين السبكي وبحث معه في الفقه، وأجاز له من دمشق الحافظان المزي والذهبي وغيرهما كابن الحربي وابن نباتة وابن الخباز وغيرهم.

 

واشتُهر اسمه وعلا ذكره وظهرت فضائله وبهرت فوائده، ثم انتصب للاشتغال فاجتمعت الطلبة عليه بكرةً وعشية.

قال ولده القاضي جلال الدين: وكان يلقي الحاوي في الأيام اليسيرة، ووصل في ذلك حتى ألقاه في جامع الأزهر في ثمانية أيام.

 

قول أئمة الإسلام فيه:

 

جاء في الكاشف: أما سراج الدين البلقيني ¬: فهو مفخرة القرن التاسع في الجمع بين علوم التفسير والحديث والاصول والفقه، وله ترجمة حافلة رائعة في " لحظ الالحاظ".

 

قال الذهبي ¬: قال شيخنا الحافظ برهان الدين سبط ابن العجمي: كان فيه من قوة الحافظة وشدة الذكاء ما لم يشاهد في مثله.

 

نقل ابن فهد عن البرهان قوله: " اجتمعت به في رحلتي الاولى إلى القاهرة في سنة ثمانين، فرأيته إماما لا يجارى، أكثر الناس استحضارا لكل ما يلقي من العلوم، وقد حضرت عنده عدة دروس مع جماعة من أرباب المذاهب، فيتكلم على الحديث الواحد من بعد طلوع الشمس، وربما أذن الظهر في الغالب وهو لم يفرغ من الكلام عليه، ويفيد فوائد جليلة لأرباب كل مذهب، خصوصا المالكية، وكان بعض فضلائه يقرأ عليه في " مختصر مسلم " للقرطبي، وممن كان يحضر عنده الامام نور الدين ابن الجلال، وكان أفقه أهل القاهرة يومئذ في مذهب مالك، وكان يستفيد منه، وكذا جمع سواه من أرباب المذاهب الاربعة، واستفدت منه فوائد جمة في التفسير والحديث والفقه والاصول، وعلقت من فوائده أشياء، وهو أجل من أخذت عنه العلم وسمعت عليه الحديث، وكان بي حفيا.

 

وفي الضوء اللامع" قال البرهان الحلبي: رأيت رجلا فريد دهره، لم تر عيناي أحفظ للفقه وأحاديث الاحكام منه ... ".

 

وقد وصفه كبار الحفاظ كابن حجر ¬ وغيره بأنه شيخ الإسلام وأنه الامام.

 

وقال الفاسي ¬: وتفقه بجماعة من شيوخ بلده منهم شيخنا شيخ الاسلام سراج الدين البلقيني، وكان واسع المعرفة بالفقه والحديث وغيره موصوفا بالإجتهاد لم يخلف بعده مثله.

 

وقال ابن شهبة ¬: وَهُوَ آخر من مَاتَ من الرؤساء الَّذين انْفَرد كل مِنْهُم بفن فاق فِيهِ أقرانه على رَأس الْقرن الثَّامِن وهم الشَّيْخ سراج الدَّين البُلْقِينِيّ فِي الْفِقْه على مَذْهَب الشَّافِعِي.

 

وقال ابن ناصر الدين ¬: وَمِنْهَا شَيخنَا الامام شيخ الاسلام مُجْتَهد الْعَصْر نادره الْوَقْت فَقِيه الدُّنْيَا سراج الدّين خَاتِمَة الْمُجْتَهدين أَبُو حَفْص عمر بن رسْلَان.. البُلْقِينِيّ امام الْأَئِمَّة وعالم الامة..

 

وصار هو الإمام المشار إليه والمعول في المشكلات والفتاوى عليه، وأتته الفتاوى من الأقطار البعيدة، ورحل الناس من الآفاق النائية للقراءة عليه، والحضور بين يديه.

وخرّج له تلميذه شيخنا الحافظ ابن حجر أربعين حديثاً عن أربعين شيخاً، وخرّج له تلميذه شيخنا العلامة الحافظ ولي الدين العراقي مائة حديث من عواليه وأبداله.

وقد أثنى عليه علماء عصره طبقة بعد طبقة من قبل الخمسين إلى حين وفاته، وكان الشيخ شمس الدين الأصفهاني كثير التعظيم له، وأجازه الشيخ أبو حيان وكتب له في إجازته ما لم يكتب لأحد قبله وسِنُّه إذ ذاك دون العشرين، وكان الشيخ عز الدين بن جماعة يعظمه ويبالغ في تعظيمه جداً، وكتب له ابن عقيل على بعض تصانيفه: أحق الناس بالفتوى في زمانه.

 

وقال ابن خلدون ¬: ثمّ تقيّ الدّين السّبكيّ بعدهما إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد وهو سراج الدّين البلقينيّ فهو اليوم أكبر الشّافعيّة بمصر كبير العلماء بل أكبر العلماء من أهل العصر.

 

وقال ولده القاضي جلال الدين ¬: هو شيخ الإسلام، والعلم الفرد المستغني عن الألقاب والأعلام، ذو الفضائل التي لا تساما ولا تسام، والمآثر والمحامد الجسام، الذابِّ عن شريعة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام بالقلم واللسان، والمجاهد في الله حق جهاده بالعلم والعمل وإن لم يكن بالسيف والسنان، قمع المبتدعة فلم يظهر لهم رؤوس وكف المبطلين فهم في حال عبوس وأبطل ما قدر على إبطاله من المنكرات والمكوس، جمع الله فيه بين صفتي الاجتهاد من الإطلاق والتقييد، فهو المتمكن من استخراج العلم بالاستنباط من الدليل بالرأي السديد، والمتمكن من تخريج الفروع على قواعد الإمام الشافعي بالعلو والتوليد، كم له من مولدات أُلين له حديدها ففاقت مولدات ابن الحداد بالتفصيل والإجمال، وتخريجات فتح بها أقفال الإشكالات التي أعْيت القفال، وخطابة اعترف له فيها إمام الحرمين بالإمامة، وتقسيمات قلده الغزالي فيها الزعامة، وفصاحة أنست سحبان وائل، وغريبة جاء في حلبة سباقها مع الأوائل.

 

وقد شهد له في حداثة سنه منصفو أئمة عصره بالتقدم في الفتوى والأولوية، واعترفوا له في ذلك بالأحقية، وسلموا له الفتوى من ستين سنة إلى حين وفاته، وانعكفت عليه الطلبة واستغرق باشتغالهم غالب أوقاته.

 

تجاوزت فتاواه الآلاف الكثيرة، وطبّقت طلبته الأرض بعلومهم الغزيرة، لم يسمع عمن مضى من الأئمة أنه أفتى كفتواه، ولا انفرد كتفرده، وليس من ناوأه، وانتهت فتاواه، وطار اسمه إلى أقصى البلاد.

 

وركن الناس إليه وجعلوا على فتواه الاعتماد، يود ملوك أقطار الأرض أن يتملوا برؤية وجهه المبارك الميمون، وإذا سمعوا عن أحد أنه من أصحابه وتلامذته فبه يتبركون، وصل من طلبته إلى بلاد خراسان من صار له فيها المكانة والإمكان، وقُصد من أطراف الأرض للاشتغال من الحجاز واليمن، ومن بلاد العراق والعجم فضلاً عن الشام ومن بها سكن، وفاقت طلبته عن الحصر وهذا كله مشاهد بالعيان ولا يحتاج إلى الدليل والبرهان، وأنشد البيت:

وليس يصح في الأذهان شيءٌ ... إذا احتاج النهار إلى دليل

 

إن تَكَلم في التفسير فهو إمامه، أو في النحو فهو الذي يلقى إليه زمامه، أو في التصريف فمنه يستفاد أوزانه ونظامه، أو في أصول الدين فهو الأستاذ على الحقيقة، أو في أصول الفقه فكم استنبط وأوضح فيه من طريقه، أو في الحديث فهو حافظ الزمان، أو في التعليل فمن تضعيفه الأمان، أو في الفقه فهو الأستاذ على الإطلاق، الجامع بين طريقتي خراسان والعراق، والمُظهر من النصوص ما لم يكن في الحساب، والآتي من الأبحاث بما يقضي منه العجب العجاب، أو في المنطق فهو ينسينا أداء ابن سينا، أو في الخلاف والجدل، فهو الذي يحصل بكلامه لسامعه من تقريبه إلى الإفهام والجذل، وإن تكلم في الوعظ والتصوف فكلامه إليه المنتهى، وحضور ميعاده هو المختار والمشتهى.

 

رؤى رؤيت له:

 

وكان ممن يحضره في جامع الأزهر الشيخ فخر الدين بن جوشن، وهو من كبار أولياء الله الصالحين فجاء يوماً وأخبر الجماعة في الدرس: أنه رأى الليلة قائلاً يقول له:

فإن يك زين الدين ظن بعلمه ... فبحر سراج الدين وردٌ لمن وَرَد

يشير إلى الشيخ زين الدين بن الكتاني تغمده الله برحمته.

 

وقال ولده شيخنا شيخ الإسلام جلال الدين: أخبرني صاحبنا العلامة جمال الدين السفردي أن الشيخ شهاب الدين ابن الخياط المقرئ العالم في ليلة الجمعة سادس عشر ذي الحجة رأى أن الشيخ جالس بمدرسته وهي مبيضة بياضاً حسناً إلى الغاية وولده القاضي جلال الدين إلى جانبه وهي مُكْتَسِيَة حصراً عيدواني من أحسن ما يكون والشيخ يتكلم بصوت جهوري على العادة، والشيخ شهاب الدين، قال شخص بجانبه: الشيخ قد مات، فقال له: أما علمت أن العلماء أحياء.

ورأى في ليلة أخرى القاضي بدر الدين بن أبي البقاء فقال له كيف حالك؟ فقال: بخير، ثم قال له: كيف حال شيخ الإسلام؟ فقال: ومن مثل شيخ الإسلام؟ ثم ذكر عدة منامات حسنة.

شدة حفظه ¬:

 

قال برهان الدين أخبرني في رحلتي الاولى إلى القاهرة بمدرسته أنه لما قدم شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي نزل في قصر بشتك، فدعاه شخص إلى الجيزة، فحضرت معه في جماعة من علماء القاهرة، منهم بدر الدين الزركشي، وابن العنبري، والطنبذي، فلما صليت العشاء قال لي شرف الدين ابن قاضي الجبل: يا سراج الدين أينا أحفظ، أنا أم أنت؟ فقلت له: سبحان الله، أنتم كذا وكذا، أتواضع له.

 

فقال: أستحضر أنا أو أنت؟ فقلت له: إن أنا استحضرت شيئا - يعني حديثا - تذكر له طرقه، وكذا بالعكس، لكن اذكر أنت على حدة وأنا كذلك، فقال ابن قاضي الجبل: اذكر أنت.

فأخذت أذكر أحاديث معللة من أول أبوب الفقه، ولا زلت أذكر إلى أن طلع الفجر، وقد وصلت إلى كتاب النكاح، فقام ابن قاضي الجبل وقبل بين عني وقال: يا سراج الدين ما رأيت بعد الشيخ - يعني شيخ الاسلام تقي الدين ابن تيمية - أحفظ منك ".

 

مصنفاته ¬:

 

ومن مصنفاته: كتاب محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح في علوم الحديث، وتصحيح المنهاج في مجلدات أكمل منه الربع الأخير في خمسة أجزاء ومن النكاح جزءٌ ونصف، والكشاف على الكشاف وصل فيه إلى أثناء البقرة في ثلاث مجلدات ضخمة، وشرح البخاري كتب خمسين كُرَّاساً على أحاديث يسيرة إلى أثناء الإيمان سماه بالفيض الجاري على صحيح البخاري، والعرف الشذي على جامع الترمذي كتب منه قطعةً صالحة، ومنهج الأصلين أكمل منه أصل الدين، وكتب قريباً من نصف أصول الفقه والنصوص والنقول عن الشافعي كتب منه قطعة صالحة، وفتاويه مشهورة لكنها غير مرتبة وقد شرع في تتبعها وترتيبها بعض طلبة اليوم، والتدريب في الفقه وصل فيه إلى الرَّضاع وهو كتاب نفيس فيه ضوابط حسنةٌ في أول الأبواب، وحواشي الروضة في أجزاء، والفوائد المَحْضَةُ على الرافعي والروضة، والمُلِمَّات على المهمات، وإظهار المستند في تعدد الجمعة في البلد -عارض فيه السبكي لمنعه التعدد، والدلائل المحققة في الوقف على طبقة بعد طبقة - رداً على السبكي أيضاً في كتابه المباحث المشرقة، والتعقب للواجب على الآمدي وابن الحاجب، وتلخيص المثال في تهذيب الكمال، وزهر الربيع في فنون المعاني والبيان والبديع، والفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام وهو كتاب نفيس وقفتُ على بعضه وكتبت منه على نسختي بالقواعد.

وهذه المصنفات أيضاً لم يكملها والسبب فيه ما تقدم فإنه كان مشتغلاً في أول النهار بالدروس في مدارسه وبعد العصر إلى الغروب في الفتاوى.

 

وفاته ¬:

 

وعاد الشيخ إلى بلده معتكفاً على نشر العلم إلى أن قاربته المنية، فضعف أياماً يسيرة ثم أفاق، ثم تزايد به الوجع في ذي القعدة فمات في يوم الجمعة عاشر ذي القعدة سنة خمس وثمان مائة عن إحدى وثمانين سنة وثلاثة أشهر وعظم المصاب به سيما على أهل خرقته وأخرج يوم السبت وحضره الجمع الغفير وكان يوماً مشهوداً وتقدم للصلاة عليه ولده قاضي القضاة جلال الدين، ودفن في مدرسته ورثاه جماعة من الأئمة منهم رفيقه الإمام الحافظ الكبير أبو الفضل العراقي فقال:

والله يبقي شيخ المسلمين لنا ... غناً عن الماضين للمتجدد

يحل في دروسه ما أُعضلت ... من المسائل الصعاب العُنَّد

يقعد للفتيا بعد عصره ... إلى غروبها بغير مقعد

يأتون من فجاج الأرض ... واردين بحر علومه الفتيِّ المورد

فيسألون لا يَرُدُّ سائلاً ... إلا بخطِّ أو بقول مرشد

وجمع الله شملنا ... في جَنَّةٍ ومنزل مخلد

بعد صلاة وسلام ... على النبيّ الأبطحي الأمجد


 

 

 

 

+++

 

 

 

 

 

 

زكريا الانصاري ¬([10])

 

قال الشيخ ابن حجر الهيتمي في معجم مشايخه: وقدمت شيخنا زكريا لأنه أجل من وقع عليه بصري من العلماء العاملين والأئمة الوارثين واعلى من عنه رويت ودريت من الفقهاء الحكماء المسندين فهو عمدة العلماء الأعلام وحجة الله على الانام حامل لواء مذهب الشافعي على كاهله ومحرر مشكلاته وكاشف عويصاته في بكرته وأصائله ملحق الاحفاد بالأجداد المتفرد في زمنه بعلوا الأسناد كيف ولم يوجد في عصره إلا من أخذ عنه مشافهة أو بواسطة أو بوسائط متعددة بل وقع لبعضهم انه أخذ عنه مشافهة تارة وعن غيره ممن بينه وبينه نحو سبع وسائط تارة أخرى وهذا لا نظير له في أحد من عصره فنعم هذا التميز الذي هو عند الأئمة أولى واحرى لأنه حاز به سعة التلامذة والاتباع وكثرة الآخذين عنه ودوام الانتفاع.

 

وقال العيدروسي: ويقرب عندي انه المجدد على رأس القرن التاسع لشهرة الانتفاع به وبتصانيفه واحتياج غالب الناس إليها فيما يتعلق بالفقه وتحرير المذهب بخلاف غيره فان مصنفاته وان كانت كثيرة فليست بهذه المثابة على أن كثيرا منها مجرد جمع بلا تحرير حتى كأنه كان حاطب ليل.

 

وحكى العلامة الحافظ جمال الدين محمد بن المعروف أفلح محدث الديار اليمنية قال وقد سمعت شيخ الإسلام المجمع على تجديده للقرن التاسع زكريا الأنصاري..

 

نسبه ومولده:

 

هو الإِمام الشيخ زكريا الأنصاري شيخ مشايخ الإِسلام، علامة المحققين، وفهامة المدققين، ولسان المتكلمين، وسيد الفقهاء والمحدثين، والحافظ المخصوص بعلو الإسناد، الملِحق للأحفاد بالأجداد زَكَرِيَّا بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن زَكَرِيَّا السنيكي الانصاري الشَّافِعِي، محيي الدّين أَبُو يحيى. ولد سنة ست وعشرين وثمانمائة بسنيكة من الشرقية.

 

صفاته ونشأته وبعض شيوخه :

 

حفظ القرآن الكريم وعمدة الأحكام وبعض مختصر التبريزي، ثم تحول إلى القاهرة عام 841 ç إحدى وأربعين وثمانمائة من الهجرة، وكمل حفظ المختصر ثم حفظ المنهاج الأصلي ونحو النصف من ألفية الحديث ومن التسهيل إلى كاد، وأقام بالقاهرة يسيراً ثم رجع إلى بلده وداوم الاشتغال وجد فيه، وأذن له غير واحد من شيوخه في الإفتاء والإقراء منهم شيخ الإِسلام ابن حجر العسقلانى.

 

وأخذ أَنْوَاع الْعُلُوم عَن شُيُوخ عصره كالقاياتي وَابْن حجر، والجلال الْمحلي، والشرف الْمَنَاوِيّ وَغَيرهم وبرع وتفنن، وسلك طَرِيق التصوف. وَلزِمَ الْجد وَالِاجْتِهَاد فِي الْقَلَم وَالْعلم وَالْعَمَل. وَاقْبَلْ على نفع النَّاس أَقراء وافتاء وتصنيفاً مَعَ الدّين المتين، وَترك مَا لَا يعنيه، وَشدَّة التَّوَاضُع، ولين الْجَانِب، وَضبط اللِّسَان وَالسُّكُوت. وَولي مشيخة الصلاحية وَغَيرهَا، وَقَضَاء الْقُضَاة.

 

ثناء العلماء عليه:

 

قال ابن حجر الهيتمي ¬: ملحق الأحفاد بالأجداد المتفرد في زمانه بعلو الإسناد، كيف ولم يوجد في عصره إلا من أخذ عنه مشافهة أو بواسطة أو بوسائط متعددة بل وقع لبعضهم أنه أخذ عنه مشافهة تارة وعن غيره من بينه وبينه نحو سبح وسائط تارة أخرى.

وهذا لا نظير له في أحد من أهل عصره، فنعم هذا التمييز الذي هو عند الأئمة أولى به وأحرى؛ لأنه حارٍّ به سعة التلامذة والأتباع وكثرة الآخذين عنه ودوام الانتفاع اç.

 

وقال حاجي خليفة ¬: كان رويته أحسن من بديهته وكتابته أمتن من عبارته وكان علَّامة، متواضعًا، عابدًا، درَّس بالظّاهرية وولي قضاء مصر في رجب سنة 886.

 

وقال زين الدين الهندي ¬: شيخ الإسلام المجدد، الامام الامجد زكريا الأنصاري.

وقال القسطلاني ¬: شيخ المذهب وفقيهه شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري السنيكي.

 

وقال العيدروسي: "الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة. وقال أيضاً: "ويقرب عندي أنه المجدد على رأس القرن التاسع لشهرة الانتفاع به وبتصانيفه واحتياج غالب الناس إليها فيما يتعلق بالفقه وتحرير المذهب".

 

وقال أيضا: قصد بالفتاوي وزاحم كثيرا من شيوخه فيها وله تهجد وتوجه وصبر واحتمال وترك القيل والقال وله أوراد واعتقاد وتواضع وعدم تنازع وعمله في التودد يزيد عن الحد ورويته أحسن من بديهته وكتابته أمتن من عبارته وعدم مسارعته إلى الفتاوى تعد من حسناته.

 

وقال السخاوي ¬: وشرح الروض شرحا بليغا قاضي الشافعية في وقتنا ومحقق الوقت الزين زكريا الأنصاري.

 

قال الشوكاني ¬: قطن الأزهر وأكمل حفظ الْمُخْتَصر الْمَذْكُور وَحفظ الْمِنْهَاج الفرعي وألفية النَّحْو والشاطبيتين وَبَعض الْمِنْهَاج الأصلي وَبَعض ألفية الحَدِيث وَمن التسهيل إِلَى كَاد وأتمه من بعد ثمَّ جدّ في الطلب وَأخذ عَن جمَاعَة مِنْهُم البلقينى والقاياتى والشرف السبكى وَابْن حجر والزين رضوَان وَغَيرهم وَقَرَأَ في جَمِيع الْفُنُون وَأذن لَهُ شُيُوخه بالإفتاء والتدريس وتصدر وَأفْتى وأقرأ وصنف التصانيف..

 

وَله شُرُوح ومختصرات في كل فن من الْفُنُون انْتفع النَّاس بهَا وتنافسوا فِيهَا ودرّس في أمكنة معتددة وَزَاد فِي الترقي وَحسن الطلاقة والتلقي مَعَ كَثْرَة حاسديه وَارْتَفَعت دَرَجَته عِنْد السُّلْطَان قايتباى وَكثر توسل النَّاس بِهِ إِلَيْهِ وَكَانَ السُّلْطَان يلهج بتوليه الْقَضَاء مَعَ علمه بِعَدَمِ قبُوله لَهُ فِي سلطنة خشقدم ثمَّ ولاه الْقَضَاء قايتباى وصمم عَلَيْهِ فأذعن بعد مَجِيء أكَابِر الدولة إِلَيْهِ فباشره بعفة ونزاهة ثمَّ عزل سنة 906 ثمَّ عرض عَلَيْهِ بعد ذَلِك فَأَعْرض عَنهُ لكف بَصَره وانجمع فِي مَحَله واشتهرت مصنفاته وَكَثُرت تلامذته وَألْحق الأحفاد بالأجداد وَعمر حَتَّى جَاوز الْمِائَة أَو قاربها وَمَات في يَوْم الْجُمُعَة رَابِع ذي الْحجَّة سنة وحزن النَّاس عَلَيْهِ كثيراً لمزيد محاسنة ورثاه جمَاعَة من تلامذته فَمن ذَلِك قَول عبد اللَّطِيف

(قضى زَكَرِيَّا نحبه فتفجرت ... عَلَيْهِ عُيُون النيل يَوْم حمامه)

(ليعلم أَن الدَّهْر رَاح أَمَامه ... وَمَا الدَّهْر يبْقى بعد فقد امامه)

(سفى الله قبراضمه غوث صيب ... عَلَيْهِ مدى الأيام صبح غمامه).

 

 

شجاعته في قول الحق:

 

ولاه السلطان قايتباي الجركسي (826 - 901) قضاء القضاة، فلم يقبله إلا بعد مراجعة وإلحاح. ولما ولي رأى من السلطان عدولا عن الحق في بعض أعماله، فكتب إليه يزجره عن الظلم، فعزله السلطان، فعاد إلى اشتغاله بالعلم إلى أن توفي.

 

مصنفاته ¬:

 

1 - فتح الرحمن في التفسير.

2 - تحفة الباري علي صحيح البخاري.

3 - فتح الجليل، تعليق علي تفسير البيضاوي.

4 - شرح إيساغوجي في المنطق.

5 - شرح ألفية العراقي، في مصطلح الحديث.

6 - تحفة شذور الذهب، في النحو.

7 - تحفة نجباء العصر, في التجويد.

8 - اللؤلؤ النظيم في رَوم التعلم والتعليم.

9 - الدقائق المحكمة شرح المقدمة.

10 - فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام.

 

 

إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (2/ 126)

11 - تنقيح تحرير اللباب في الفقه.

12 - غاية الوصل، في أصول الفقه.

13 - لب الأصول، اختصره من جمع الجوامع.

14 - أسنى المطالب في شرح روض الطالب، في الفقه، أربعة أجزاء.

15 - الغرر البهية في شرح البهجة الوردية، في الفقه، خمسة أجزاء.

16 - منهج الطلاب، في الفقه.

17 - الزبدة الرائقة، رسالة في شرح البردة.

قلت: وله مؤلفات غير ما ذكر منها:

1 - مختصر تقريب النشر (مطبوع)

2 - المَقْصدِ لتلخيص ما في المرشد في الوقت والابتداء (مطبوع).

 

وفاته ¬:

 

قال العيدروس: وَفِي يَوْم الْجُمُعَة رَابِع ذِي الْحجَّة سنة خمس وَعشْرين توفّي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة شيخ الْإِسْلَام قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين زَكَرِيَّا بن مُحَمَّد بن أحمد بن زكريا الأنصاري السنيكي ثم القاهري الأزهري الشافعي بالقاهرة ودفن بالقرافة بالقرب من الإمام الشافعي وحزن الناس عليه كثيرا لمحاسنه الكثيرة واوصافه الشهيرة ورثاه جماعة من تلامذته بعدة مراثي مطولات.




([1]) ينظر: التاريخ الكبير للبخاري بحواشي المطبوع (6/ 174) و مشاهير علماء الأمصار (ص: 283) و سير أعلام النبلاء ط الرسالة (5/ 114) وما بعدها، والطبقات الكبرى ط العلمية (5/ 253) و طبقات الفقهاء (ص: 64).

([2]) الإبهاج في شرح المنهاج (3/ 208).

([3]) ينظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 63) و تاريخ بغداد ت بشار (2/ 392) وما بعدها و معرفة السنن والآثار (1/ 208) وما بعدها ووفيات الأعيان (4/ 163) و سير أعلام النبلاء ط الرسالة (10/ 5) وما بعدها و فيض القدير (1/ 10) و تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري (ص: 53) و مجمع بحار الأنوار (1/ 328) و الإبهاج في شرح المنهاج (3/ 208).

([4]) ينظر: تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري (ص: 26) وما بعدها وتاريخ بغداد ت بشار (13/ 260) وما بعدها و سير أعلام النبلاء ط الحديث (11/ 392) وما بعدها و طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (3/ 347) وما بعدها و فتح الباري لابن رجب (7/ 236) و مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1712) و الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر (1/ 136) و العلو للعلي الغفار (ص: 217) و

([5]) ينظر: تاريخ بغداد ت بشار (6/ 20) و سير أعلام النبلاء ط الحديث (13/ 13) و طبقات الشافعيين (ص: 345) و الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة (1/ 482) و اللباب في الفقه الشافعي (ص: 17) .

([6]) ينظر: تاريخ بغداد وذيوله ط العلمية (21/ 27) و تاريخ دمشق لابن عساكر (55/ 200) وما بعدها و المنتخب من كتاب السياق لتاريخ نيسابور (ص: 76) و سير أعلام النبلاء ط الرسالة (19/ 322) وما بعدها و طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (6/ 216) وما بعدها و طبقات الشافعيين (ص: 534) و الدر الثمين في أسماء المصنفين (ص: 84) و التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول (ص: 380) و العقد المذهب في طبقات حملة المذهب (ص: 116) و المقفى الكبير (7/ 44) و

([7]) ينظر: وفيات الأعيان (4/ 248) وما بعدها و طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/ 81) وطبقات الشافعيين (ص: 778) وما بعدها وطبقات المفسرين للسيوطي (ص: 115) والعقد المذهب في طبقات حملة المذهب (ص: 149).

([8]) ينظر: سير أعلام النبلاء ط الرسالة (14/ 203) وطبقات الشافعيين (ص: 952) و الرد الوافر (ص: 58) والأعلام للزركلي (6/ 283) والتاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول (ص: 454) وطبقات علماء الحديث (4/ 265) والمقفى الكبير (6/ 196) وما بعدها والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (2/ 229).

([9]) ينظر: الكاشف (1/ 107) وذيل التقييد في رواة السنن والأسانيد (1/ 334) والرد الوافر (ص: 114) والسلوك لمعرفة دول الملوك (5/ 57) والجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر (1/ 266) وبهجة الناظرين إلى تراجم المتأخرين من الشافعية البارعين (ص: 29) وفتح الباري لابن حجر (1/ 13) والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/ 39) وطرح التثريب في شرح التقريب (8/ 248) واللمع في أسباب ورود الحديث (ص: 28) وتاريخ ابن خلدون (1/ 568) وحسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة (1/ 329) وتاريخ ابن حجي (2/ 588) وطبقات الشافعية لابن قاضى شهبة (4/ 65).

([10]) ينظر: نظم العقيان في أعيان الأعيان (ص: 113) والأعلام للزركلي (3/ 46) وإمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (2/ 123) وسلم الوصول إلى طبقات الفحول (2/ 113) وفتح المعين بشرح قرة العين بمهمات الدين (ص: 35) وإعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين (1/ 26) وشرح القسطلاني = إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (1/ 43) ومرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 135) ومنحة الباري بشرح صحيح البخاري (1/ 59) والضوء اللامع لأهل القرن التاسع (2/ 295) والنور السافر عن أخبار القرن العاشر (ص: 111) وشذرات الذهب في أخبار من ذهب (10/ 186) والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (1/ 252). 

 

 

 

المحتويات

المقدمة: 3

تمهيد: 5

عمر بن عبد العزيز ¢.... 15

محمد بن ادريس الشافعي ¬..... 30

أبو الحسن الأشعري ¬..... 44

أبو حامد الإسفراييني ¬..... 56

أبو حامد الغزاليّ ¬..... 60

فخر الدين الرازي ¬..... 72

ابن دقيق العيد ¬..... 81

سراج الدين البُلقيني ¬..... 89

زكريا الانصاري ¬..... 100

 

 

 



([1]) الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة (ص: 7).

([2]) معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 348).

([3]) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 340) وينظر تفسير الألوسي = روح المعاني (12/ 309) و عون المعبود وحاشية ابن القيم (11/ 260) و فيض القدير (1/ 10).

([4]) ذكريات - علي الطنطاوي (8/ 331).

([5]) العواصم من القواصم ط دار الجيل (ص: 8).

([6]) (قال الطيبي: المراد بالبعث من انقضت المئة وهو حي عالم مشهور مشار إليه. والكرماني قال: قد كان قبيل كل مئة أيضا من يصحح ويقوم بأمر الدين وإنما المراد من انقضت المئة وهو حي عالم مشار إليه. ولما كان ربما يتوهم من تخصيص البعث برأس القرن أن القائم بالحجة لا يوجد إلا عنده أردف ذلك بما يبين أنه قد يكون في أثناء المئة من هو كذلك بل قد يكون أفضل من المبعوث على الرأس وأن تخصيص الرأس إنما هو لكونه مظنة انخرام علمائه غالبا وظهور البدع ونجوم الدجالين.). فيض القدير (1/ 15).

([7]) سنن أبي داود (4/ 109).( ومعنى الحديث: أنه إذا قل العلم، وغلبَ المبتدِعُون، وَفَّقَ الله لعالمٍ رَبَّانيٍّ بأن يعلِّمَ الناسَ علومَ الدين، ويبيِّنَ لهم السنةَ من البدعة، ويكسِرَ أهلَ البدعة ويُذِلَّهم، ويؤيِّدَ الدِّين، ويُعِزَّ أهله، ويُكثرَ العلم بين الناس). المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 341).

([8]) عون المعبود وحاشية ابن القيم (11/ 267) وينظر: مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 341). وقال السخاوي: (وقد أخرجه الطبراني في الأوسط كالأول وسنده صحيح، ورجاله كلهم ثقات، وكذا صححه الحاكم، فإنه أخرجه في مستدركه من حديث ابن وهب، وسعيد الذي رفعه أولى بالقبول لأمرين: أحدهما: أنه لم يختلف في توثيقه بخلاف عبد الرحمن فقد قال فيه ابن سعد: إنه منكر الحديث، والثاني: أن معه زيادة علم على من قطعه، وقوله فيما أعلم ليس بشك في وصله، بل قد جعل وصله معلوما له، وقد اعتمد الأئمة هذا الحديث.) المقاصد الحسنة (ص: 203).

([9]) المصدر السابق.

([10]) البداية والنهاية ط هجر (19/ 42).

([11]) تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد (ص: 59).

([12]) شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (2/ 699) وينظر فيض القدير (1/ 10) و العواصم من القواصم ط دار الجيل (ص: 8) و مجمع بحار الأنوار (1/ 328).

([13]) فيض القدير (1/ 10).

([14]) عون المعبود وحاشية ابن القيم (11/ 260).

([15]) المصدر السابق وينظر شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (2/ 700).

([16]) عون المعبود وحاشية ابن القيم (11/ 261).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الآجرّوميّة