الاثنين، 22 يونيو 2020

مزالق في طريق الدعوة



لا أقول للداعية -الى الله- اذا تجنبت مزالق الدعوة وعملت بما يضادها من الخير: ستنقلب حياتك ورديّة من غير تعب ولا منغصّات؛ بل المكدرات لا تنفك عن الداعية ما دام سيره في هذا الطريق، ونهاية هذا الطريق الجنة بلا شكّ، وطريق نهايته الجنة لا يكون سهلا؛ بل يكون طريقا موحشا تحوطه الآفات من كل جانب؛ ولكنّ الله يفتح على بعض عباده: يختارهم، يوفقهم، يهيئهم لأمره العظيم، يسيرون فيه فيَغلِبون ويُغلَبون سنة الله الماضية في خلقه والعاقبة للمتقين.

ومزالق الدعوة متنوعة ومتفاوتة الخطورة: فمنها ما يؤثر تأثيرا ذاتيا، ومنها ما يؤثر على الأمّة ومزالق الداعية على سبيل المثال هي:

 

الكبر والحرص:

وهما صفتان قبيحتان مذمومتان تسببتا بإخراج إبليس من الجنة ولزمته اللعنة بسببهما. والداعية المتكبر لا يصل كلامه الى قلوب الناس وتمجّه الأسماع والكبر يهدم جميع الجسور والقنوات التي تربطه بمن حوله فلا هو نفع نفسه ولا الناس نفعهم.

وأما الحرص: إن لم يهدم الدعوة فإنه يضعفها. ومن الحرص حرص الداعية أن يعمل في الدعوة وحده ولا يشرك أحدا فيها لأسباب كثيرة تتعلق بحظوظ النفس الأمارة بالسوء.

 

تساوي الداعية والمدعو في الخُلق:

جبلت النفوس أن تأخذ ممن هو أعلى منها دينا وخلقا؛ وأما النفوس المتساوية في الصفات فيستحيل أن تكون قدوة لبعضها، والداعية قدوة ويجب عليه أن ينهض بنفسه عن مستوى المدعوين حتى يكتب لدعوته القبول.

 

التصنيف:

منذ أن خلق الله الخليقة والناس أصناف فصنف هابيل يختلف عن صنف قابيل وهكذا.. ولكن لا يعني هذا أن نقدم التصنيف على حساب الدعوة هناك قضايا أساسية مهمة ومشتركة ممكن أن نترك التصنيف عندها فإذا كان المدعو ملحدا فما يهمني أن أتعاون مع صنف آخر اشترك معه في مئات المسائل واختلف معه في آحادها من أجل إنقاذ نفس من ظلمة الالحاد الى نور الإسلام، ولو غرق إنسان فذهب من ينقذه ولكنه يعجز عن إنقاذه لوحده فرآه من يختلف معه هل يمنعه من مساعدته، أو يتوقف الآخر لحظة: بسبب اختلافهما، لو ترك هذا ومنع ذاك من أجل اختلافهما لعدوهما الناس مجنونين.

 

عدم التأهل علميا-الجهل-:

أي داعية لا يملك ما يكفي من العلم سينزلق ويزلق غيره عن الصراط المستقيم، وواقعنا شاهد على ذلك؛ فكم من الناس كرهوا الدين بسبب فلان وعلان لأنه أجبرهم على فعل شيء-بحسب رأيه- ويسعهم غيره: وسبب هذا المزلق: علم ضئيل، وتجنب النظر في مقاصد الشريعة والجهل في اختلاف العلماء فيظن الداعية أنه على شيء وهو لا شيء، ويحسب أنه على خير وهو في الشر واقع ولا يدري!

لذلك أختار رَسُولُ اللَّهِ (‘) معَاذَ بْنَ جَبَلٍ -وهو أعلم الصحابة بالحلال والحرام- حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ وقال له: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»([1]). ولم أختار معاذ بن جبل (¢) لأنه يدعو الناس على بصيرة، ومع كون معاذ (¢) من علماء الصحابة الا أن النبي (‘) لم يتركه بلا خطة فرسمها له، ووضع له النقاط على الحروف. لذلك يجب على الداعية أن يتسلح بالعلم وسعه فإن جهل فإنه يستعين بأهل العلم، فإن أنفت نفسه ذلك فليترك الدعوة لغيره.

 

 

جهل الأولويات:

من مزالق الدعوة عدم ترتيب الأولويات، فلا يحسن بالداعية أن يبدأ بصلاح الأباعد ويترك دعوة أهل بيته، ويترك قبيلته لانشغاله بقبيلة أخرى قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] وفي الحديث: ((ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ))([2]).

وأما فيما يخص نفس الدعوة فلا يبدأ الداعية بالفرع ويترك الأصل، وقد حصلت مآسي بين المسلمين بسبب الجهل بالأولويات فقد رأينا من فرق جماعة المسلمين لرأي -وأيّ رأي- وشاهدنا من تسبب بقتل الناس وإرعابهم بسبب سنة مختلف فيها! ولعلّ الساحة اليوم أفضل بكثير من ذي قبل لكثرة الأحداث التي صقلت النفوس وهذبت العقول والله المستعان.

 

فظاظة الجانب وقسوة القلب:

وهذه الصفة من أعظم الصفات التي تزلق الدعاة، وهي السدّ المنيع بين الداعية والجمهور؛ فيستحيل نجاح دعوة بوجود هذه الصفات القبيحة لذلك نزه الله نبينا الكريم (‘) عنها فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] وأي دعوة ليس فيها رحمة فهي ميتة.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ (¢)، ((أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ (‘) جَالِسٌ فَصَلَّى قَالَ ابْنُ عَبْدَة: رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ (‘): لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَأَسْرَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ (‘) وَقَالَ: إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ، صُبُّوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ)). هذه الدعوة هي التي تأسر قلوب الناس لذلك دخلوا في دين الله أفواجا.

وقد رأينا من فظاظة بعض الدعاة وقساوة قلوبهم: سواء مع إخوانهم وشاكلتهم أو مع غيرهم: ما تعجز عن تسطيره الأقلام! وينبغي على كل داعية أن يلزم الجادة فلا يبغي على إخوانه ولا يقسو على الخلق، قَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: أَوْصِنِي قَالَ: «أَخَفِ مَكَانَكَ لَا تُعْرَفُ فَتُكْرَمُ بِعَمَلِكَ , وَاخْزِنْ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ وَتَعَاهَدْ قَلْبَكَ أَنْ لَا يَقْسُو , وَهَلْ تَدْرِي مَا قَسَاوَةُ مَنْ أَذْنَبَ»([3]).

 

العجلة:

السلامة في التأني. والعجلة تجلب المهالك، وتضيع الحقوق. ومن يدعو الى أمر عظيم لا يستقيم له أن يعجل وفرضه التأني ولا يخيب من تأنى قبل الحكم، وتفكر قبل الإقدام. ويفشل من يبنى دعوته على ردات الفعل؛ فالدعوة الى الله عظيمة ولعظمتها يجب الا تخلو من التخطيط والرويّة. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - -: "يَا أَشَجُّ، إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ ورسوله: الْحِلْمَ، وَالتُّؤَدَةَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَشَيْءٌ جُبِلْتُ عَلَيْهِ، أَمْ شَيْءٌ حَدَثَ لِي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - -: "بَلْ شَيْءٌ جُبِلْتَ عَلَيْهِ"([4]).

 

التعصب:

التعصب أو العصبية صفة رديّة وهي صفة أهل الجاهلية ويجب على الداعية أن ينزه نفسه عنها، وليعلم من يدعو الى الله: أن الإسلام أوسع دائرة من الحزبية والقبيلة والمذهب، ولا قدسية الا للإسلام.

ولا يحرم الإسلام اتباع المذاهب ولكن يحرم التعصب لها وترك الحق من أجلها و{الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [آل عمران: 19] والكل يخضع له ويكون تحت حكمه وفي ظلّه، ولا يجوز جعل حكم الأشخاص فوق حكم الإسلام مهما علا شأن فلان أو علان من الناس، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الحَقَّ} [النساء: 171] وفي الحديث: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ))([5]).

 

 

 

جهل الواقع:

من أهم أولويات الداعية أن يفهم واقعه جيدا واقع الأشخاص أو واقع المجتمع المقصود بدعوته ومن دعا الى الله وجهل واقعه؛ كمن يحاول فتح باب بمفتاح مكسر الأسنان!

قال ابن القيم (¬): (ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان - - بقوله: " ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما " إلى معرفة عين الأم، وكما توصل أمير المؤمنين علي - - بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب ما أنكرته لتخرجن الكتاب أو لأجردنك إلى استخراج الكتاب منها.

وكما توصل الزبير بن العوام بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول الله - - حتى دلهم على كنز جبى لما ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله: المال كثير والعهد أقرب من ذلك، وكما توصل النعمان بن بشير بضرب المتهمين بالسرقة إلى ظهور المال المسروق عندهم، فإن ظهر وإلا ضرب من اتهمهم كما ضربهم، وأخبر أن هذا حكم رسول الله - -.

ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله..)([6]).

 

 

 

 

 

عمر العبد الله

2جمادى الثاني1441ه



([1]) صحيح البخاري (2/ 128).

([2]) رواه البخاري كتاب الجنائز، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ح(1360)، وح(1361)، وفي كتاب النفقات، باب وجوب النفقة على الآهل والعيال، ح(5040)، وح(5041)، ورواه مسلم كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن اليد العليا هي المنفقة وأن اليد السفلى هي الآخذة، ح(1034)، وح(1036)، وفي باب كراهة المسألة للناس ح(1042).

([3]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 97).

([4]) سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط (5/ 281).

([5]) رواه ابن ماجه كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، ح(3029)، قال الشيخ الألباني: صحيح.

([6]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 69).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الآجرّوميّة