الاثنين، 22 يونيو 2020

خلق الله آدم على صورته




بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين: نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين أما بعد:

قال رسول الله (‘) : " خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ" هذا الحديث مع كون أهل العلم قديما وحديثا أجمعوا على صحته الا أنه خرج علينا في زماننا هذا من ينكره أو يشكك في صحته ونسبته الى النبي (‘) ويجعله مأخوذا من كلام أهل الكتاب! فشمرت عن يميني ناقلا كلام أئمة الدين في صحته وبيان معناه ونفي ما أثير حوله من المعاني البعيدة الضعيفة.

{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

 

 

عمر العبد الله

الجمعة غرّة رمضان 1441ه


 

بيان حديث الصورة

الحديث جاء في صحيح البخاري مجزأ مرّة ذكر فيه:

حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ (‘) قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ، النَّفَرِ مِنَ المَلاَئِكَةِ، جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ"([1]).

ومرّة أخرى ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ (¢) أيضا، عَنِ النَّبِيِّ (‘) قَالَ: «إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ»([2]).

ولكن الإمام مسلم جمعهما قال (¬) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ حَاتِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ (‘) قَالَ: «إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ»([3]). فهذه الرواية تبين السبب الذي نهي من أجله عن ضرب الوجه وسيأتي بيان ذلك.

 

 

 

اختلاف العلماء في عود الضمير

مسألة الصورة هذه التي جاءت في الأحاديث المتفق على صحتها حصل فيها اختلاف قديما وحديثا حتى ثقلت العبارات بينهم وأنا أنقل أقوالهم فيها ثم أبين ما ظهر لي منها:

بيان أوجه الاختلاف ومناقشتها:

القول الأول: أن الضمير يرجع الى الله وأن المقصود صورة الله أو المقصود الصفة، وهذا رأي ابن قتيبة الدينوري قال: (والذي عندي -والله تعالى أعلم- أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع، والعين، وإنما وقع الإلف لتلك، لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه، لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد)([4]).

وقال ابن حجر (¬): (وقيل الضمير لله وتمسك قائل ذلك بما ورد في بعض طرقه على صورة الرحمن والمراد بالصورة الصفة والمعنى أن الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء)([5]).

وقال ابن تيمية (¬): (والكلام على ذلك أن يقال هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك وهو أيضاً مذكور فيما عند أهل الكتابين من الكتب كالتوراة وغيرها ولكن كان من العلماء في القرن الثالث من يكره روايته ويروي بعضه كما يكره رواية لبعض الأحاديث لمن يخاف على نفسه ويفسد عقله أو دينه.. ولكن ظهر لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائداً إلى غير الله تعالى حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم كأبي ثور وابن خزيمة وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة..)([6]).

قلت: وقد شنع بعض العلماء على صاحب هذه المقولة أيما تشنيع! قَالَ ابن خزيمة (¬): تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَتَحَرَّ الْعِلْمَ أَنَّ قَوْلَهُ: «عَلَى صُورَتِهِ» يُرِيدُ صُورَةَ الرَّحْمَنِ عَزَّ رَبُّنَا وَجَلَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى الْخَبَرِ.. وقال: وَقَدِ افْتُتِنَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الَّتِي فِي خَبَرِ عَطَاءٍ عَالِمٌ مِمَّنْ لَمْ يَتَحَرَّ الْعِلْمَ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ إِضَافَةَ الصُّورَةِ إِلَى الرَّحْمَنِ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ إِضَافَةِ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَغَلَطُوا فِي هَذَا غَلَطًا بَيِّنًا، وَقَالُوا مَقَالَةً شَنِيعَةً مُضَاهِيَةً لِقَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ..)([7]).

قال المازري –رحمه الله- (هذا الحديث ثابت عِند أهل النقل. وقد رَوَاه بَعضهم: "أنّ الله خلق آدمَ على صورة الرَّحَمنِ" وَلاَ يثبت هذا عند أهل النقل. ولعله نَقْل من راويه بالمعنى الذي توهمه: وظنّ أنّ (الضمير عائد) على الله سبحانه فأظهره وقال على صورة الرحمن.

واعلم أن هذا الحديث غلِط فيه ابن قتيبة وأجراه على ظاهره (وقال: فإن الله سبحانه له صورة لا كالصور وأجرى الحديث على ظاهره) والذي قاله لا يخفى فساده..)([8]).

وقال ابن بطال (¬): (وذهب طائفة إلى الهاء كناية عن الله تعالى وهذا أضعف الوجوه، لأن حكم الهاء أن ترجع إلى أقرب المذكور، إلا أن تدل دلالة على خلاف ذلك)([9]).

وقال الاصفهاني: (..كون الهاء كناية عن الله وهذا أضعف الوجهين من قبل أن الظاهر أن الهاء ترجع إلى أقرب المذكور إليه إلا أن تدل دلالة على خلاف ذلك)([10]).

وقال البيهقي (¬): (وَقَدْ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ (¬)، قَوْلُهُ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» الْهَاءُ وَقَعَتْ كِنَايَةً بَيْنَ اسْمَيْنِ ظَاهِرَيْنِ، فَلَمْ تَصْلُحْ أَنْ تُصْرَفَ إِلَى اللَّهِ (¸)، لَقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِذِي صُورَةٍ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَكَانَ مَرْجِعُهَا إِلَى آدَمَ (’)، فَالْمَعْنى أَنَّ ذُرِّيَّةَ آدَمَ إِنَّمَا خُلِقُوا أَطْوَارًا كَانُوا فِي مَبْدَأِ الْخِلْقَةِ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ صَارُوا صُوَرًا أَجَنَّةً إِلَى أَنْ تَتِمَّ مُدَّةُ الْحَمْلِ، فَيُولَدُونَ أَطْفَالًا، وَيَنْشَأُونَ صِغَارًا، إِلَى أَنْ يَكْبَرُوا فَتَطُولَ أَجْسَامُهُمْ، يَقُولُ: إِنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ خَلْقُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، لَكِنَّهُ، أَوْ لَمَّا تَنَاوَلَتْهُ الْخِلْقَةُ وُجِدَ خَلْقًا تَامًّا، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا)([11]).

وقال القاضي عياض (¬): (واعلم أن هذا الحديث غلط فيه ابن قتيبة وأجراه على ظاهره، وقال: فإن الله سبحانه له صور لا كالصور، وأجرى الحديث على ظاهره، والذى قال لا يخفى فساده؛ لأن الصورة تفيد التركيب، وكل مركب محدث، والبارى - (´) - ليس بمحدث فليس بمركب، وما ليس بمركب فليس بمصور، وهذا من جنس قول المبتدعة: إن البارى - جل وعز - جسم لا كالأجسام، لما رأوا أهل السنة قالوا: شىء لا كالأشياء طرد واحد، فقالوا: جسم لا كالأجسام. وقال ابن قتيبة: صورة لا كالصور.

والفرق بين ما قلناه وما قالوه: أن لفظة " شىء " لا تفيد الحدوث ولا تتضمن ما يقتضيه، وقولنا: جسم وصورة يتضمن التأليف والتركيب، وذلك دليل الحدوث. وعجبا لابن قتيبة فى قوله: صورة لا كالصور، مع كون هذا الحديث يقتضى ظاهره عنده خلق آدم على صورته، فقد صارت صورة البارى - سبحانه - على صورة آدم - (’) - على ظاهر هذا على أصله، فكيف يكون على صورة آدم، ويقول: إنها لا كالصور. وهذا يناقض.

ويقال له أيضا: إن أردت بقولك: صورة لا كالصور أنه ليس بمؤلف ولا مركب، فليس بصورة على الحقيقة، وأنت [مثبت] تسمية تفيد فى اللغة معنى مستحيلا عليه تعالى، مع نفى ذلك، فلم يعط اللفظ حقه ولم يجره على ظاهره.

فإذا سلمت أنه ليس على ظاهره فقد وافقت على افتقاره إلى التأويل وهذا الذى نقول به، فإذا ثبت افتقاره إلى التأويل قلنا: أختلف الناس فى تأويله، فمنهم من أعاد الضمير إلى المضروب، وذكر أن فى بعض طرق الحديث أنه سمعه (‘) يقول: " قبح الله وجهك ووجه من أشبهك " أو نحو هذا، فقال (‘) ما قال، أما على هذه الرواية - وهى شتم من أشبهه - فبين وجه هذا التعليل؛ لأنه إذا شتم من أشبهه وآدم يشبهه فكأنه شتم آدم وغيره من الأنبياء - (ﭺ) -[وإنما] ذكر الأول تنبيها عليه وعلى نبيه)([12]).

وقال النووي (¬): (وأما قوله (‘) (فإن الله خلق آدم على صورته) فهو من أحاديث الصفات .. وأن من العلماء من يمسك عن تأويلها ويقول نؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد ولها معنى يليق بها وهذا مذهب جمهور السلف وهو أحوط وأسلم والثاني أنها تتأول على حسب ما يليق بتنزيه الله تعالى وأنه ليس كمثله شيء)([13]).

وقال أبو بكر الاصفهاني (¬): (واعلم أن بعض أصحابنا المتكلمين في تأويل هذا الخبر حاد على وجه الصواب وسلك طريق الخطأ والمحال فيه وهو ابن قتيبة توهما أنه مستمسك بظاهره غير تارك له فقال إن لله (¸) صورة لا كالصور كما أنه شيء لا كالأشياء فأثبت لله تعالى صورة قديمة زعم أنها لا كالصور وأن الله خلق آدم على تلك الصورة وهذا جهل من قائله وتوغل في تشبيه الله تعالى بخلقه والعجب منه أنه تأول الخبر ثم زعم أن الله صورة لا كالصور ثم قال: إن آدم مخلوق على تلك الصورة وهذا كلام متناقض متهافت يدفع أوله آخره وذلك أن قوله لا كالصور ينقض قوله إن الله خلق آدم عليها لأن المفهوم من قول القائل فعلت هذا على صورة هذا أي ماثلته به واحتذيت في فعله به وهذا يوجب أن صورة آدم (’) كصورته جل ثناؤه ويمنع تأويله أن له صورة لا كالصور وليت شعري إلى أي وجه ذهب في إضافة الصورة إلى الله (¸):

أراد به إثبات الرب تعالى مصورا بصورة لا تشبه الصور.

أم إثباته مصورا بأمثال هذه الصور.

أم أراد به أن له هيئة مخصوصة وصورة معينة معلومة.

أم رجع بذلك إلى إثبات صفة له سماها صورة لا على معنى وجه الهيئة والتأليف وليس يخلو ما ذهب إليه من هذه الأقسام وكل ذلك فاسد لا يليق بالله (¸).)([14]).

 

القول الثاني: أن الهاء كناية عن المضروب وأن الحديث له سببا يرجع اليه كما في رواية مسلم، قال ابن خزيمة (¬): (تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَتَحَرَّ الْعِلْمَ أَنَّ قَوْلَهُ: «عَلَى صُورَتِهِ» يُرِيدُ صُورَةَ الرَّحْمَنِ عَزَّ رَبُّنَا وَجَلَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى الْخَبَرِ، بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ: «خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» ، الْهَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كِنَايَةٌ عَنِ اسْمِ الْمَضْرُوبِ، وَالْمَشْتُومِ، أَرَادَ (‘) أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ هَذَا الْمَضْرُوبِ، الَّذِي أَمَرَ الضَّارِبَ بِاجْتِنَابِ وَجْهِهِ بِالضَّرْبِ، وَالَّذِي قَبَّحَ وَجْهَهَ، فَزَجَرَ (‘) أَنْ يَقُولَ: «وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ» ، لِأَنَّ وَجْهَ آدَمَ شَبِيهُ وُجُوهِ بَنِيهِ، فَإِذَا قَالَ الشَّاتِمُ لِبَعْضِ بَنِي آدَمَ: قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ، كَانَ مُقَبِّحًا وَجْهَ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، الَّذِي وُجُوهُ بَنِيهِ شَبِيهَةٌ بِوَجْهِ أَبِيهِمْ، فَتَفَهَّمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ مَعْنَى الْخَبَرِ، لَا تَغْلَطُوا وَلَا تَغَالَطُوا فَتَضِلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَتَحْمِلُوا عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّشْبِيهِ الَّذِي هُوَ ضَلَالٌ)([15]).

قال القاضي عياض (¬): (قد جاء فى هذا الحديث نفسه ما أغنى عما ذكر فى بعض الأحاديث، بأن مسلما قد ذكر فى هذا: " إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته "، فالهاء هاهنا عائدة على الأخ المنهى أن يضرب وجهه ويستقيم الكلام، وتظهر فائدة الحديث ويزول الإشكال.

وإنما يبقى الإشكال كله فى الحديث الآخر الذى لم يذكر فيه هذا السبب مثل حديث البخارى فى باب السلام: " إن الله لما خلق آدم على صورته قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة "، وخرجه مسلم - أيضا - بعد هذا بنصه فى " باب خلق آدم " [ومثل هذا] ، لكن قد تقدم فيه من التأويلات ما يكفى بعضها)([16]).

وقال البيهقي (رحمه الله): (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (‘): «إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَجَنَّبِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ هَذَا الْمَضْرُوبِ)([17]).

وقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: (يُرِيدُ بِهِ عَلَى صُورَةِ الَّذِي قِيلَ لَهُ: قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ مِنْ وَلَدِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْخطابَ لِبَنِي آدَمَ دُونَ غَيْرِهِمْ قَوْلُهُ (‘): » وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ «، لِأَنَّ وَجْهَ آدَمَ فِي الصُّورَةِ تُشْبِهُ صُورَةَ وَلَدِهِ)([18]).

و قَالَ أَيضا: «هَذَا الْخَبَرُ تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ لَمْ يُحْكِمُ صِنَاعَةَ الْعِلْمِ وَأَخَذَ يُشَنِّعُ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ السُّنَنَ، وَيَذُبُّونَ عَنْهَا، وَيَقْمَعُونَ مَنْ خَالَفَهَا بِأَنْ قَالَ: لَيْسَتْ تَخْلُو هَذِهِ الْهَاءُ مِنْ أَنْ تُنْسَبَ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى آدَمَ، فَإِنْ نُسِبَتْ إِلَى اللَّهِ كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا، إِذْ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وَإِنْ نُسِبَتْ إِلَى آدَمَ تَعَرَّى الْخَبَرُ عَنِ الْفَائِدَةِ، لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خُلِقَ عَلَى صُورَتِهِ لَا عَلَى صُورَةِ غَيْرِهِ، وَلَوْ تَمَلَّقَ قَائِلُ هَذَا إِلَى بَارِئِهِ فِي الْخَلْوَةِ، وَسَأَلَهُ التَّوْفِيقَ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالْهِدَايَةِ لِلطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ فِي لُزُومِ سُنَنِ الْمُصْطَفَى (‘) لَكَانَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْقَدْحِ فِي مُنْتَحِلِي السُّنَنِ بِمَا يَجْهَلُ مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ جَهْلُ الْإِنْسَانِ بِالشَّيْءِ دَالًا عَلَى نَفْيِ الْحَقِّ عَنْهُ لِجَهْلِهِ بِهِ.

وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ أَخْبَارَ الْمُصْطَفَى (‘) إِذَا صَحَّتْ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ لَا تَتَضَادَّ، وَلَا تَتَهَاتَرُ، وَلَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ بَلْ لِكُلِّ خَبَرٍ مَعْنًى مَعْلُومٌ يُعْلَمُ، وَفَصْلٌ صَحِيحٌ يُعْقَلُ، يَعْقِلُهُ الْعَالِمُونَ.

فَمَعْنَى الْخَبَرِ عِنْدَنَا بِقَوْلِهِ (‘): » خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ «: إِبَانَةُ فَضْلِ آدَمَ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ، وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى آدَمَ، وَالْفَائِدَةُ مِنْ رُجُوعِ الْهَاءِ إِلَى آدَمَ دُونَ إِضَافَتِهَا إِلَى الْبَارِئِ (جل وعلا) - جَلَّ رَبُّنَا وَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُشَبَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ - أَنَّهُ (جل وعلا) جَعَلَ سَبَبَ الْخَلْقِ الَّذِي هُوَ الْمُتَحَرِّكُ النَّامِي بِذَاتِهِ اجْتِمَاعَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، ثُمَّ زَوَالَ الْمَاءِ عَنْ قَرَارِ الذَّكَرِ إِلَى رَحِمِ الْأُنْثَى، ثُمَّ تَغَيُّرَ ذَلِكَ إِلَى الْعَلَقَةِ بَعْدَ مُدَّةٍ، ثُمَّ إِلَى الْمُضْغَةِ، ثُمَّ إِلَى الصُّورَةِ، ثُمَّ إِلَى الْوَقْتِ الْمَمْدُودِ فِيهِ، ثُمَّ الْخُرُوجِ مِنْ قَرَارِهِ، ثُمَّ الرَّضَاعِ، ثُمَّ الْفِطَامِ، ثُمَّ الْمَرَاتِبِ الْأُخَرِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا إِلَى حُلُولِ الْمَنِيَّةِ بِهِ.

هَذَا وَصْفُ الْمُتَحَرِّكِ النَّامِي بِذَاتِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلْقِ اللَّهِ (جل وعلا) آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خَلْقَهُ عَلَيْهَا، وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ تَقْدُمُهُ اجْتِمَاعُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، أَوْ زَوَالُ الْمَاءِ، أَوْ قَرَارُهُ، أَوْ تَغْيِيرُ الْمَاءِ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً، أَوْ تَجْسِيمُهُ بَعْدَهُ، فَأَبَانَ اللَّهُ بِهَذَا فَضْلَهُ عَلَى سَائِرِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ خَلْقِهِ، بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نُطْفَةً فَعَلَقَةً، وَلَا عَلَقَةً فَمُضْغَةً، وَلَا مُضْغَةً فَرَضِيعًا، وَلَا رَضِيعًا فَفَطِيمًا، وَلَا فَطِيمًا فَشَابًّا كَمَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَةُ غَيْرِهِ ضِدَّ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ حَشْوِيَّةٌ يَرْوُونَ مَا لَا يَعْقِلُونَ وَيَحْتَجُّونَ بِمَا لَا يَدْرُونَ»([19]).

(ومما قيل إن هذا الخبر خرج على سبب وذلك أن النبي (‘) مر برجل يضرب ابنه أو عبده في وجهه لطما ويقول قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فقال (‘) إذا ضرب أحدكم عبده فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته // أخرجه البخاري //

وقد نقل الناقلون هذه القصة مع هذه اللفظة من الطرق الصحيحة وإنما ترك بعض الرواة بعض الخبر إختصارا على ما يذكر منه للدلالة على ما يحذف إذا كانت القصة عنده مشهورة مضبوطة بنقل الإثبات لأن أكثر الغرض عندهم الأسانيد دون المتون فلذلك ترك بعضهم ذكر السبب فيه

فالأولى أن يحمل المختصر من ذلك على المفسر حتى يزول الإشكال وإنما قال النبي (‘) له ذلك لأنه سمعه يقول قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك وذلك سب للأنبياء وللمؤمنين فزجره عن ذلك.

وخص آدم بالذكر لأنه هو الذي ابتدئت خلقة وجهه على الحد الذي يحتذى عليها من بعده كأنه ينبهه على أنك قد سببت آدم ومن ولد مبالغة في الردع له عن مثله وإذا كان كذلك فهذا وجه ظاهر والهاء كناية عن الضرب في وجهه ولا شبهة فيه)([20]).

وقال زين الدين العراقي (رحمه الله): (قوله في رواية لمسلم «فإن الله خلق آدم على صورته» ظاهر أنه صريح في أن المراد على صورة المضروب؛ فلهذا المعنى أمر بإكرامها ونهى عن ضربها وهذه الصيغة دالة على التعليل ولولا ذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباط بالتي قبلها وقد تقدم تقرير ذلك في كلام القرطبي وروي أنه - (‰) - «مر على رجل يضرب عبده في وجهه لطما ويقول قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فقال - (‰) - إذا ضرب أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته» وأعاد بعضهم الضمير على الله تعالى وأيده بالرواية التي لفظها «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» ولكن تلك الرواية ليست صحيحة قال المازري: هذا ليس بثابت عند أهل الحديث وكأن من نقله رواه بالمعنى الذي توهمه وغلط في ذلك اç.)([21]).

وقال ابن حجر (رحمه الله): (واختلف في الضمير على من يعود فالأكثر على أنه يعود على المضروب لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه ولولا أن المراد التعليل بذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباط بما قبلها .. وقال: وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد وأحمد من طريق بن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعا لا تقولن قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته وهو ظاهر في عود الضمير على المقول له ذلك.)([22]).

 

القول الثالث: أن الضمير يعود الى آدم (‘)، قال ابن منده (رحمه الله): (وَتَكَلَّمُوا عَلَى ضُرُوبٍ شَتَّى، وَالْأَحْسَنُ مِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ , (’) , عَلَى صُورَتِهِ. مَعْنَاهُ: لَمْ يَخْلُقْهُ طِفْلًا ثُمَّ صَبِيًّا ثُمَّ شَابًّا ثُمَّ كَهْلًا ثُمَّ شَيْخًا , هُوَ الْأَصَحُّ مِنْهَا مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ (‘) بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ (‘) أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ، وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ , فَإِنَّ اللَّهَ , (¸) , خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» هَذَا إِسْنَادٌ مَشْهُورٌ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ , وَابْنُ عَجْلَانَ أَخْرَجَ عَنْهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيُّ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ , وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ (‘) بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ , (¸) , خَلَقَ بَنِي آدَمَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ , (’) , فَإِذَا شُتِمَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ وَمَنْ يُشْبِهُ وَجْهَهُ فَقَدْ شُتِمَ آدَمُ , (’) , فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ)([23]).

قلت: والنووي (رحمه الله) ضعف هذا القول مرّة ورجحه أخرى قال: (وقالت طائفة يعود إلى آدم وفيه ضعف)([24]).. ومرّة قال: قوله (‘) (خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا)، هذا الحديث سبق شرحه وبيان تأويله وهذه الرواية ظاهرة في أن الضمير في صورته عائد إلى آدم وأن المراد أنه خلق في أول نشأته على صورته التي كان عليها في الأرض وتوفي عليها وهي طوله ستون ذراعا ولم ينتقل أطوارا كذريته وكانت صورته في الجنة هي صورته في الأرض لم تتغير)([25]).

وقال عياض (رحمه الله): (وهذا التأويل الذى ذهب إليه هؤلاء - من إعادة الضمير إلى آدم بنفسه - إنما يحسن إذا روى لفظ النبى (‘) مجردا من السبب، مقتصرا منه على قوله: " إن الله خلق آدم على صورته "، وأما ذكر السبب، أو ذكر جميع ما حكاه مسلم عنه - (’) -: " إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته " فإنه لا يحسن صرف الضمير لآدم؛ لأنه ينفى أن يكون بين السبب أو صدر الكلام وآخره ارتباط وتميز الكلام)([26]).

وقال ابن حجر (رحمه الله): (وزعم بعضهم أن الضمير يعود على آدم أي على صفته أي خلقه موصوفا بالعلم الذي فضل به الحيوان وهذا محتمل)([27]).

وقال أيضا: (وهذه الرواية تؤيد قول من قال إن الضمير لآدم والمعنى أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها لم ينتقل في النشأة أحوالا ولا تردد في الأرحام أطوارا كذريته بل خلقه الله رجلا كاملا سويا من أول ما نفخ فيه الروح ثم عقب ذلك بقوله وطوله ستون ذراعا فعاد الضمير أيضا على آدم وقيل معنى قوله على صورته أي لم يشاركه في خلقه أحد إبطالا لقول أهل الطبائع وخص بالذكر تنبيها بالأعلى على الأدنى والله أعلم)([28]).

 

قلت: والذي يظهر لي أن حديث "على صورة الرحمن" لا يصح سنده وكونه أيضا مخالفا لما صح من الأحاديث، وسيأتي بيان ضعفه.

وأما ما يظهر لي رجحانه من الأقوال هو القول الثاني وهو أن الهاء كناية عن المضروب وأن الحديث له سببا يرجع اليه كون الحديث ورد معللا بذلك في رواية مسلم (رحمه الله) وأما القول الأول فشنع عليه كثير من الأئمة كونه يثير معنى فاسدا وأما القول الثالث ففيه ضعف وإن قال به كثير من العلماء.

وعلى فرض رجحان القول الأول فيفوض معناه الى الله أو يؤول بما ينزه الله عنه.

 

 

 

 

 

كلام المحدثين على حديث الصورة

عَنِ ابْنِ عُمَرَ (¢)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (‘): «لَا تُقَبِّحُوا الْوَجْهَ فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ».

 

أولا: تخريجه:

أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/ 85) والآجري في الشريعة (3/ 1152) والطبراني في المعجم الكبير (12/ 430) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 64) والدارقطني في الصفات ت الغنيمان (ص: 37) وغيرهم: من طرق عن جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر مرفوعا.

 

ثانيا: دراسة الحديث والحكم عليه:

الحديث رواته ثقات غير أنه معلّل بعلل ثلاث بينها الامام ابن خزيمة (رحمه الله) وبيّن لها علّة رابعة محدث الديار الشامية العلاّمة الألباني (رحمه الله):

قال الامام ابن خزيمة (رحمه الله): (فَإِنَّ فِي الْخَبَرِ عِلَلًا ثَلَاثًا , إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ الثَّوْرِيَّ قَدْ خَالَفَ الْأَعْمَشَ فِي إِسْنَادِهِ، فَأَرْسَلَ الثَّوْرِيُّ وَلَمْ يَقُلْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأَعْمَشَ مُدَلِّسٌ، لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ حَبِيبَ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ: أَيْضًا مُدَلِّسٌ، لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عَطَاءٍ، سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ يَقُولُ: ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: لَوْ حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْكَ بِحَدِيثٍ لَمْ أُبَالِ أَنْ أَرْوِيَهُ عَنْكَ، يُرِيدُ لَمْ أُبَالِ أَنْ أُدَلِّسَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ، لَا يَكَادُ يَحْتَجُّ بِهِ عُلَمَاؤُنَا مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْخَبَرُ فِي مِثْلِ هَذَا الْجِنْسِ، فِيمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ لَوْ ثَبَتَ)([29]).

وقال الدارقطني (رحمه الله): (يرويه حبيب بن أبي ثابت، واختلف عنه؛ فرواه جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن حبيب، عن عطاء، عن ابن عمر، عن النبي (‘).

وغيره يرويه عن الأعمش، عن حبيب، عن عطاء، مرسلا، عن النبي (‘).

وكذلك رواه الثوري، عن حبيب، عن عطاء مرسلا. والمرسل أصح)([30]).

قال الامام المازري (رحمه الله): (وأما مَن صرّح بهذا الضمير وأخرجه الرحمن فإنه يردُّ من جهة النقل وأنه ضعيف عند المحدثين)([31]).

وقال البيهقي (رحمه الله): (. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْخَبَرِ فِي الْأَصْلِ كَمَا رُوِّينَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَدَّاهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ مِنْ مَعْنَاهُ([32])[33].

 

وقال ابن قتيبة (رحمه الله): (ولما وقعت هذه التأويلات المستكرهة، وكثر التنازع فيها، حمل قوما اللجاج على أن زادوا في الحديث، فقالوا: روى بن عمر عن النبي (‘)، فقالوا: "إن الله (¸) خلق آدم على صورة الرحمن".

يريدون أن تكون الهاء في "صورته" لله جل وعز، وإن ذلك يتبين بأن يجعلوا الرحمن مكان الهاء كما تقول: "إن الرحمن خلق آدم على صورته"، فركبوا قبيحا من الخطأ.

وذلك أنه لا يجوز أن نقول: "إن الله تعالى خلق السماء بمشيئة الرحمن" ولا على إرادة الرحمن وإنما يجوز هذا، إذا كان الاسم الثاني غير الاسم الأول، أو لو كانت الرواية: "لا تقبحوا الوجه، فإنه خلق على صورة الرحمن"، فكان الرحمن غير الله، أو الله غير الرحمن)([34]).

 

وقال الألباني (رحمه الله): (والعلة الرابعة: هي جرير بن عبد الحميد فإنه وإن كان ثقة كما تقدم فقد ذكر الذهبي في ترجمته من " الميزان " أن البيهقي ذكر في " سننه " في ثلاثين حديثا لجرير بن عبد الحميد قال: " قد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ ".

 

وإن مما يؤكد ذلك أنه رواه مرة عند ابن أبي عاصم (رقم 518) بلفظ: " على صورته ". لم يذكر " الرحمن ". وهذا الصحيح المحفوظ عن النبي (‘) من الطرق الصحيحة عن أبي هريرة، والمشار إليها آنفا.

فإذا عرفت هذا فلا فائدة كبرى من قول الهيثمي في " المجمع " (8/106) :" رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهو ثقة، وفيه ضعف ". وكذلك من قول الحافظ في " الفتح " (5/139) : " أخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات ". لأن كون رجال الإسناد ثقاتا ليس هو كل ما يجب تحققه في السند حتى يكون صحيحا، بل هو شرط من الشروط الأساسية في ذلك، بل إن تتبعي لكلمات الأئمة في الكلام على الأحاديث قد دلني على أن قول أحدهم في حديث ما: " رجال إسناده ثقات "، يدل على أن الإسناد غير صحيح، بل فيه علة ولذلك لم يصححه، وإنما صرح بأن رجاله ثقات فقط، فتأمل)([35]).

 

قلت: قد تبين الان ضعف هذا الحديث وأنه مخالف للطرق الصحيحة المتفق عليها وأنه لا يجوز لنا أن نأخذ عقيدتنا من طرق معلولة وهذا اللفظ المعلول لعله من تصرف بعض الرواة لأنه ظنّ أن الضمير يعود على لفظ الجلالة فصرح به([36]).

وقال ابن خزيمة (رحمه الله) على فرض صحة الحديث: (فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ مُسْنَدًا بِأَنْ يَكُونَ الْأَعْمَشُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَحَبِيبٌ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَصَحَّ أَنَّهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ فَمَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ عِنْدَنَا أَنَّ إِضَافَةَ الصُّورَةِ إِلَى الرَّحْمَنِ فِي هَذَا الْخَبَرِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْخَلْقَ يُضَافُ إِلَى الرَّحْمَنِ، إِذِ اللَّهُ خَلَقَهُ، وَكَذَلِكَ الصُّورَةُ تُضَافُ إِلَى الرَّحْمَنِ، لِأَنَّ اللَّهَ صَوَّرَهَا، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ (¸): {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11] ، فَأَضَافَ اللَّهُ الْخَلْقَ إِلَى نَفْسِهِ، إِذِ اللَّهُ تَوَلَّى خَلْقَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ (¸): {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةٌ} [الأعراف: 73] ، فَأَضَافَ اللَّهُ النَّاقَةَ إِلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ: {تَأْكُلُ فِي أَرْضِ اللَّهِ} [الأعراف: 73] وَقَالَ: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] ؟ قَالَ: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128] فَأَضَافَ اللَّهُ الْأَرْضَ إِلَى نَفْسِهِ، إِذِ اللَّهُ تَوَلَّى خَلْقَهَا فَبَسَطَهَا، وَقَالَ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] ، فَأَضَافَ اللَّهُ الْفِطْرَةَ إِلَى نَفْسِهِ إِذِ اللَّهُ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَمَا أَضَافَ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِضَافَةُ الذَّاتِ، وَالْآخَرُ: إِضَافَةُ الْخَلْقِ فَتَفَهَّمُوا هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، لَا تَغَالَطُوا فَمَعْنَى الْخَبَرِ إِنْ صَحَّ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ مُسْنَدًا، فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ خُلِقَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهَا الرَّحْمَنُ، حِينَ صَوَّرَ آدَمَ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، قَالَ اللَّهُ (جل وعلا): {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]..

 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَصُورَةُ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا، الَّتِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ (‘) أَنَّ آدَمَ (’) خُلِقَ عَلَيْهَا، لَا عَلَى مَا تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَتَحَرَّ الْعِلْمَ، فَظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ: «عَلَى صُورَتِهِ» صُورَةِ الرَّحْمَنِ، صِفَةً مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ (جل وعلا) عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِالْمُوتَانِ وَالْأَبْشَارِ، قَدْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ وَقَدَّسَ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَقَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] , وَهُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، لَا كَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَلَا مِنَ الْمُوتَانِ، كَمَا شَبَّهَ الْجَهْمِيَّةُ مَعْبُودَهُمْ بِالْمُوتَانِ..)([37]).

قلت: وعلى تقدير صحة هذه اللفظة فللسلف فيها مذهبان:

((أحدهما) : وهو مذهب جمهورهم الإمساك عن تأويلها والإيمان بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد، ولها معنى يليق بها.

(والثاني) تأويلها بحسب ما يليق بتنزيه الله تعالى، وأنه ليس كمثله شيء، وتأويله هنا أن هذه إضافة تشريف واختصاص كقوله تعالى {ناقة الله} [الشمس: 13] وكما يقال في الكعبة " بيت الله " ونحو ذلك وأوله بعضهم بأن الصورة قد تطلق بمعنى الصفة كما يقال صورة هذه المسألة كذا أي صفتها كذا فمعناه أن الله تعالى خلق آدم - (‰) - موصوفا بالعلم الذي فضل به بينه وبين جميع الحيوانات وخصه منه بما لم يخص به أحدا من ملائكة الأرضين والسموات)([38]).

 



([1]) صحيح البخاري (8/ 50).

([2]) صحيح البخاري (3/ 151).

([3]) صحيح مسلم (4/ 2017).

([4]) تأويل مختلف الحديث (ص: 318).

([5]) فتح الباري لابن حجر (11/ 3).

([6]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (6/ 373) وما بعدها.

([7]) التوحيد لابن خزيمة (1/ 86).

([8]) المعلم بفوائد مسلم (3/ 299).

([9]) شرح صحيح البخارى لابن بطال (9/ 7).

([10]) مشكل الحديث وبيانه (ص: 47).

([11]) الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 61).

([12]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 87).

([13]) شرح النووي على مسلم (16/ 166).

([14]) مشكل الحديث وبيانه (ص: 67).

([15]) التوحيد لابن خزيمة (1/ 84).

([16]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 89).

([17]) السابق.

([18]) صحيح ابن حبان - مخرجا (13/ 19).

([19]) صحيح ابن حبان - مخرجا (14/ 33).

([20]) مشكل الحديث وبيانه (ص: 45).

([21]) طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 17).

([22]) فتح الباري لابن حجر (5/ 183).

([23]) التوحيد لابن منده (1/ 222).

([24]) شرح النووي على مسلم (16/ 165).

([25]) شرح النووي على مسلم (17/ 178).

([26]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 87).

([27]) فتح الباري لابن حجر (5/ 183).

([28]) فتح الباري لابن حجر (6/ 366).

([29]) التوحيد لابن خزيمة (1/ 86).

([30]) علل الدارقطني = العلل الواردة في الأحاديث النبوية (13/ 188).

([31]) المعلم بفوائد مسلم (3/ 303).

([32]) أي جاء بلفظ "على صورة الرحمن"!

([33]) الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 64).

([34]) تأويل مختلف الحديث (ص: 318) .

([35]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (3/ 316).

([36]) ينظر: التوحيد لابن خزيمة (1/ 84).

قال الألباني ¬: (وبهذه المناسبة أقول: لقد أساء الشيخ التويجري-¬ تعالى- إلى العقيدة والسنة الصحيحة معاً بتأليفه الذي اسماه: " عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن"، فإن العقيدة لا تثبت إلا بالحديث الصحيح، والحديث الذي اقام عليه كتابه مع أنه لا يصح من حيث إسناده، فهو مخالف لأربعة طرق صحيحة عن أبي هريرة، هذا الحديث المتفق على صحته أحدها، والأخرى مع أن الشيخ خرجها وصححها فهو لم يستفد من ذلك شيئاً؛ لأن هذا العلم ليس من شأنه، وإلا كيف يصح لعالم أن يقبل طريقاً خامساً عن أبي هريرة بلفظ:" على صورة الرحمن "! مخالفاً لتلك الطرق الأربعة، والتي ثلاثتها بلفظ: " على صورته"، والأولى منها فيها التصريح بأن مرجع الضمير إلى آدم كما ترى، يضاف إلى هذه المخالفة التي تجعل حديثها شاذاً عند من يعرف الحديث الشاذ لو كان إسناده صحيحاً، فكيف وفيها ابن لهيعة، والشيخ يعلم ضعفه ومع ذلك يحاول (ص: 27) توثقه، ولو بتغيير كلام الحفاظ وبتره، فهو يقولك " قال الحافظ ابن حجر في " التقريب": صدوق"! وتمام كلام الحافظ يرد عليه؛ فإنه قال فيه:"خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما"!

وهذا الحديث ليس من رواية أحدهما! فماذا يقال فيمن ينقل بعض الكلام، ويكتم بعضه؟! وله مثل هذا كثير، لا يتسع هذا التعليق لبيان ذلك.

وأما حديث ابن عمر باللفظ المنكر، فقد تكلف الشيخ جداً في الإجابة عن العلل الثلاث التي كنت نقلتها عن ابن خزيمة، كما تجاهل رجاحة رواية سفيان المرسلة على واة جرير المسندة عن ابن عمر! ولربما تجاهل علىة رابعة كنت ذكرتها في "الضعيفة" (3/317) وهي أن جريراً ساء حفظه في آخر عمره، وهذا هو سبب اضطرابه في هذا الحيدث، فمرة رواه بهذا الفظ المنكر، فتشبث الشيخ به، ومرة رواه باللفظ الصحيح: " عرى صورته" فتجاهله الشيخ! مع أنه مطلع عليه في "السنة" برقم (518) ومن تعليقي عليه ينقل ما يحلو له نقله من كلامي ليرد عليه بزعمه، ومنه أنني قلت في حديث أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بلفظ: " على صورة وجهه"؛ فإني صححت إسناده تحت رقم (516) وأتبعته بقولي:" لكني في شك من ثوبت قوله: " ... وجهه" فمن المحفوظ في الطرق الصحيحة: "على صورته" فألزمني الشيخ - في كلام طويل له ممجوج- بالقول بصحة الحديث، وقال (ص 28) :" وإذا كان الإسناد صحيحاً، فلا وجه للشك في متنه"!

ومن الواضح لكل ذي بصيرة أن هذا الكالم غير وارد علي، لأنني لم أشك في متن الحديث فرددته مع صحة إسناده، حاشا لله فنحن بفضل الله وتوفيقه من أشد الناس معاداة لمن يفعل ذلك، وإنما شككت في هذه الزيادة: "وجهه" للمخافة المشار إليها، وفي ظني أن الشيخ لا يعرف أنه لا يلزم من صحة السند صحة المتن، وأن من شروط الصحيح أن لا يشذ ولا يعل، وإلا لما ألزمني ذاك الإلزام، ولرد علي- لو أمكنه- دعواي الشذوذ المشار إليه في قولي: " والمحفوظ ... " ولكن هيهات هيهات! وختاماً فإني أريد أن أنبه القراء الكرام إلى أن ما نسبه الشيخ إلى ابن تيمية والذهبي وابن حبان أنهم صححوا الحديث، فهو غير صحيح، وإنما صححوه باللفظ المتفق عليه، فأما اللفظ المنكر فلا، وراجع "الضعيفة" لتتأكد من صحة ما أقول.) صحيح الأدب المفرد (ص: 374).

([37]) التوحيد لابن خزيمة (1/ 86).

([38]) طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 17).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الآجرّوميّة