الأحد، 26 يناير 2020

خطورة التشتت


أكثر المشتتات في الزمن القديم كانت في الخارج -أعني خارج المنزل- وكانوا قديما ينتعشون اذا رجعوا الى بيوتهم لخلاصهم من ضجيج الحياة، وكثرة ما فيها من الصخب والملهيات؛ وأما زماننا هذا فلا يشبهه زمان خصوصا: في تشتيت الذهن وفقد التركيز؛ فالمغريات في كل مكان، والملهيات لا تحصى كثرة وأغلبها غير ضروريّ. ومن أعظم الأشياء التي تفقدنا التركيز هي: مشكلة العصر: الانترنت بصفة عامة، ومواقع التواصل الاجتماعي –فيس بوك، تويتر، يوتيوب...- بصفة خاصة، والذكاء الاصطناعي، ويستر الله مما نحن عليه مقبلون، حتى أصبحنا ننتقل من جهاز الى جهاز، ومن موقع الى آخر بشغف ومن غير رويّة فخسرنا أشياءنا الثمينة وأهملنا مهماتنا العظيمة بسببها!

كان الناس في عهد ليس بالبعيد -نحن أدركناه- إذا جلسوا في مكان واحد تواصلوا مع بعضهم البعض بكل مشاعرهم: بثّوا أحزانهم، وأظهروا همومهم، وتشاركوا في أتراحهم وأفراحهم.. وأما اليوم فقد سَلبت هذه الأجهزة تلك المشاعر الجميلة؛ فترى أبدانهم مجتمعة وأرواحهم متفرقة!

ولعلّ أعداءنا نجحوا فغيبونا عن أهم غاية ركز عليها القرآن الكريم في آيات كثيرة، وهي تدعونا الى التفكر والتأمل في آيات الله الكونية والشرعية، وتحثنا على تنظيم حياتنا اليومية قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وقال {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]، وغيرها من الآيات التي تصب في نفس المعنى، وكيف ننظر في آيات الله: وأبصارنا مرهقة بالنظر في أجهزتنا، وكيف نتبصّر في مخلوقات الله وعقولنا كلّت وضعفت بسبب الألعاب ومواقع التواصل!

نعم ربحنا التقنية؛ ولكنا خسرنا: أوقاتنا، حياتنا، إيماننا الكامل، ظفرنا بالسعادة الموهومة؛ ولكنا خسرنا السعادة الحقيقة، وكلّ ذلك سببه: إهمال التركيز في المهمات، وانغمارنا في اللهو.

وسر التخلّف في الدراسة أو الحياة عموما: هو تفريطنا في التركيز. لماذا أصبح العبقري عبقريا؟ لأنه ركّز في صنعته. ما الذي ميّز زيد على عمرو في دراسته حتى أصبح زيد في أعلى الدرجات، وخسرها عمرو؟ سبب ذلك بكل تأكيد هو: التركز من زيد والغفلة من عمرو.

إذا كان عندك مهمة تريد إنجازها، أو صنعة تحب إتقانها، أو تجارة ترغب في زيادتها: فتجنب الملهيات، والأمور الثانوية اجعل لها وقتا آخر: وسدّ كل باب يقضي على تركيزك، أغلق الهاتف، إن كنت جائعا فكل، وإن عطشت فروّ ظمئك، وإن بكى طفلك فحاول إسكاته، وإن نعست فارقد{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } [الشرح: 7] وباشر فيما كنت تريد إنجازه؛ فإنك إن فعلت ذلك أتقنت عملك ورضي عنك ربُّك ورضي عنك الناس.
ومن أهم ما يزيد قوة التركيز التأمل في الطبيعة بعيدا عن صخب الأسواق وضجيج المجالس، والتفكر في خلق الله: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 17 - 21] وقد أفلح من تذكّر؛ فعمل لدنياه وآخرته، وآخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].



 عمر العبد الله
21  جمادى الأولى 1441ه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الآجرّوميّة